ومثال ذلك : أنه سبحانه وتعالى لم يزل راضيا عن سحرة فرعون ، وإن كانوا في حال طاعة فرعون على الكفر والضلال ، لكن لما آمنوا في المآل ؛ بان بأن تعالى لم يزل راضيا عنهم ، وكذلك الصديق ، والفاروق رضي الله عنهما لم يزل راضيا عنهما في حال عبادة الأصنام ، لعلمه بمآل أمرهما وما يصير إليه من التوحيد ونصر الرسول والجهاد في سبيل الله تعالى.
وكذلك لم يزل ساخطا على إبليس ، وبلعم ، وبرصيص ، في حال عبادتهم ؛ لعلمه بمآلهم وما يصير إليه حالهم.
وقد سئل الجنيد رضي الله عنه عن قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) [الأنبياء : ١٠١] فقال : هم قوم سبقت لهم العناية في البداية ، فظهرت لهم الولاية في النهاية.
مسألة
ويجب أن يعلم : أن العبد له كسب وليس مجبورا (١) بل مكتسب لأفعاله ؛ من طاعة ومعصية ؛ لأنه تعالى قال : (لَها ما كَسَبَتْ) [البقرة : ١٣٤] يعني من ثواب طاعة (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦] يعني من عقاب معصية. وقوله : (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [الرّوم : ٤١] وقوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشّورى : ٣٠] وقوله : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)) [فاطر : ٤٥].
ويدل على صحة هذا أيضا : أن العاقل منا يفرق بين تحرك يده جبرا وسائر بدنه عند وقوع الحمى به ، أو الارتعاش ، وبين أن يحرك هو عضوا من أعضائه قاصدا إلى ذلك باختياره ، فأفعال العباد هي كسب لهم وهي خلق الله تعالى. فما يتصف به الحق لا يتصف به الخلق ، وما يتصف به الخلق لا يتصف به الحق ، وكما لا يقال لله تعالى إنه مكتسب ، كذلك لا يقال للعبد إنه خالق.
__________________
(١) وبهذا يظهر أن كون العبد مجبورا في أفعاله ليس من مذهب الأشعري وأول من نطق بعزو ذلك إليه هو الفخر الرازي ، واهما في التخريج ، وادعاء ، كونه مجبورا من الخطورة بمكان (ز).