من التوراة الخط ، والحروف ، والورق ، والدفتر ولم يحرق كلامي ، فأخبر تعالى أن كلامه ليس هو الحروف التي حرقت ولا أنه مما تناله الأيدي ولا تعتديه ولا يبلى ولا ينعدم ، ويؤكد هذا قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «لو جعل هذا القرآن في إهاب وألقي في النار لم يحترق» ولم يرد صلىاللهعليهوسلم أن الجلد ، والمداد والحروف المصورة لا تحترق ، وإنما أراد أن كلام الله تعالى هو القرآن لا يحترق في النار ولا يتصور عليه الحرق والعدم ، إنما يتصور ذلك على الأجسام والأشكال. فأما الكلام القديم فلا. والذي يدل على صحة هذا أنه ـ ونعوذ بالله تعالى ـ لو أخذ اليوم جبار عاص لله مصحفا فحرقه بالنار حتى صار رمادا ، أنقول إن كلام الله القديم احترق وانعدم؟ أم نقول إن كلامه باق ثابت لم يحترق ولم ينعدم ، وإنما احترق الورق ، والحروف المصورة بلا خلاف بين كل عاقل.
دليل آخر على حدث الحروف : وهو أن الأمة مجمعة على أن من قرأ كلام الله تعالى في صلاته لم تبطل صلاته ، ولا خلاف أن من قرأ حروف التهجي في صلاته بطلت صلاته ، فعلم بذلك أنها ليست بكلام الله تعالى.
دليل آخر على ذلك : وهو أن من قرأ القرآن وهو جنب أو امرأة حائض مع علمها بتحريم ذلك أنهما قد عصيا وفعلا ما لا يجوز لهما ، ولو تهجّى الجنب والحائض حروف الهجاء من أولها إلى آخرها لم يعصيا بذلك ، فعلم بذلك أن الحروف غير كلام الله تعالى. وإنما هي آلة يكتب بها كلام الله تعالى ويتلى بها كلامه ، وليست نفس كلامه. ويدل على ذلك أيضا ما روى علي رضي الله عنه أنه قال في جواب مسائل سأله عنها اليهود فقال : إن الله تعالى كلّم موسى عليهالسلام بلا جوارح ، ولا أدوات ، ولا حروف ، ولا شفة ، ولا لهوات ، سبحانه عن تكيف الصفات. وأيضا ما روي عن علي عليهالسلام أنه سئل هل رأيت ربك؟ وكان السائل له دعبل فقال في جوابه : لم أعبد ربا لم أره. فقال له : كيف رأيته؟ قال : لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، بل رأته القلوب بحقائق الإيمان ، ويحك يا دعبل! إن ربي لا يوصف بالبعد وهو [قريب] ولا بالحركة ، ولا بقيام ، ولا انتصاب ، ولا مجيء ، ولا ذهاب ، كبير الكبراء لا يوصف بالكبر ، جليل الأجلاء لا يوصف بالغلظ ، رءوف رحيم لا يوصف بالرقة ، آمر لا بحروف ، قائل لا بألفاظ ، فوق كل شيء ولا يقال شيء تحته ، وخلف كل شيء ، ولا يقال شيء قدامه ، وأمام كل شيء ، ولا يقال له أمام ، وهو في الأشياء غير ممازج ولا خارج منها كشيء من شيء خارج ، (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤] لو كان على شيء لكان محمولا ، ولو كان في شيء لكان محصورا ، ولو كان من شيء لكان محدثا.