ويدل عليه قول شيخ طبقة التصوف الجنيد رحمهالله ؛ فإنه قال : جلّت ذاته عن الحدود ، وجلّ كلامه عن الحروف ، فلا حد لذاته ، ولا حروف لكلامه. ويدل عليه أيضا ما حدّث به أبو بكر (١) النقاش في تفسيره عن آدم بن أبي إياس قال : رأيت في يد بكر بن خنيس كتابا فزدت فيه حرفا أو نقصت منه حرفا : فقال لي بكر بن خنيس : يا آدم من أمرك أن تفعل هذا؟ أما علمت أن الله تعالى لما خلق الألف انتصبت قائمة ، فلما خلق الباء أضجعت ، وقيل للألف لم انتصبت قائمة؟ قالت : أنتظر ما أومر. وقيل للباء لم أضجعت؟ قالت : سجدت لربي. فقال بكر : فأيهما أجل؟ الذي فعل ما لم يؤمر به ـ يعني الباء سجدت ولم تؤمر بالسجود ـ أو الذي انتظر ما يؤمر ـ يعني الألف ـ. قال آدم بن أبي إياس : فكأنه فضل الألف على الباء ودلالة هذا على وجهين :
أحدهما : أنه صرح في هذا بخلق الألف والباء.
والثاني : أنه فضل الألف على الباء ، والقديم لا يجوز أن يفضل بعضه على بعض ، ولا يوصف بالأبعاض وإنما الذي يبعض ويحدد تلاوة القديم لا نفس الكلام القديم : وأيضا ما ذكره في تفسيره بإسناد رفعه إلي كعب الأحبار أنه قال : إن أول ما خلق الله تعالى من الحروف الباء ، ويقال : كانت الألف والسين حرفين كاملين فرفعت السين فرفع الله الألف عليها.
وأيضا ما روي عن عبد الله بن سعيد أنه قال : عرضت حروف المعجم على الرّحمن تعالى وتقدّس وهي تسعة وعشرون حرفا فتواضع الألف من بينها فشكر الله تعالى له فجعله قائما ، وجعله أمام اسمه الأعظم ـ يعني الله ـ فإنه لم يسم به غيره.
ويدل عليه أيضا : أن حروف التوراة مخالفة لحروف الفرقان في الهيئة والصورة والعدد ، لأن حروف التوراة حروف عبرانية ، وكذلك القول في حروب الإنجيل والمقروء بالكل منهما وإن اختلفت الحروف شيء واحد ، لا يختلف ولا يتغير.
وأيضا فإن الحروف تحتاج إلى مخارج ، فحرف الشفة غير حرف اللسان ، وحرف الحلق غيرهما ، فلو كان تعالى يحتاج في كلامه إلى الحروف لاحتاج إلى المخارج وهو منزّه عن جميع ذلك سبحانه وتعالى عما يشركون.
__________________
(١) محمد بن الحسن صاحب شفاء الصدور الكذاب المشهور (ز).