وأيضا فإن الحروف متناهية معدودة ، وكلام الله تعالى قديم لا مفتتح لوجوده ولا نهاية لدوامه كعلمه ، وقدرته ، ونحو ذلك من صفات ذاته. وقد أكد تعالى ذلك بغاية التأكيد ، وأن كلامه لا يدخله العد والحصر والحد ، بقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩)) [الكهف : ١٠٩] وقال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧] فأخبر تعالى في هاتين الآيتين أنه لا نهاية لكلامه. إذ كل ما له نهاية له بداية ، وإنما تتصور النهاية في حق من يتصور في حقه البداية. وبالجملة أن من خالف في هذا فلا أراه أهلا للكلام معه ، لأنه ينكر ما قد علم ضرورة ويكابر الحس ويعاند الحق ، وفي هذا القدر كفاية ومقنع.
مسألة
ويجب أن يعلم أن القراءة (١) غير المقروء ، وأنها صفة للقارئ ، والمقروء بها غير مخلوق بل هو من كلام الباري وكذلك الحفظ صفة القلب والمحفوظ غير مخلوق ، بل هو كلام الرب ، وكذلك السمع صفة السامع والمسموع به غير مخلوق بل هو كلام الله تعالى ؛ وكذلك الكتابة صفة الكاتب والمكتوب بها من القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ولا صفة مخلوق ، وهذا كما تقول : إن الذكر غير المذكور ، لأن الذكر صفة الذاكر ، والمذكور بذكره هو الله تعالى ، وكذلك العبادة صفة العابد من المخلوقين ، والمعبود غير العبادة بل هو الله تعالى ؛ وكذلك التسبيح صفة العبد المسبح ، والمسبح هو الله تعالى ، والذي يحقق هذه الجملة النفي ، والإثبات ، والوجود ، والعدم. فإنك تقول : قرأ زيد أمس. فقراءته أمس معدومة اليوم ، وقراءته اليوم غير قراءته أمس ، والمقروء أمس بقراءته أمس هو المقروء بقراءته اليوم. ثم تنفي تارة أخرى فتقول : لم يقرأ زيد يوما ولم يوجد منه قراءة ، والمقروء موجود ثابت لا يتصور عليه العدم ، بل هو ثابت قبل وجود زيد وقبل وجود قراءته ، وموجود ثابت في حال قراءته وبعد قراءته على وجه واحد لا يتصور عليه الشيء وضده وهذا كما تقول : عبد زيد ربه اليوم ولم يعبده أمس ، فعبادته اليوم غير عبادته أمس ، وعبادته أمس
__________________
(١) ليكن على ذكر منك ما علقناه على مواضع من هذا الكتاب وغيره من أن وصف القرآن القائم بالله المقروء والمكتوب ، والمخطوط ، والمسموع من قبيل وصف المدلول بوصف الدال عند السعد وغيره من المحققين (ز).