والمصحف قد يسمى قرآنا ، لأن فيه كتابة القرآن ، وقد روي ذلك صريحا عنه صلىاللهعليهوسلم ، فإنه كتب إلى عمرو بن حزم : «ولا يمس القرآن إلا على طهارة» فأراد بذلك :
المصحف الذي حلّ فيه كتابة كلام الله القديم لا يجوز عليه المس بالأيدي.
جواب آخر : وهو أنه أراد لا تسافروا بكتابة القرآن ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، كما قال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) [يوسف : ٨٢] يعني أهل القرية (وَالْعِيرَ) [يوسف : ٨٢] يعني أهل العير. وقوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النّساء : ٤٣] قال أكثر أهل العلم موضع الصلاة. وقد قال تعالى : (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) [الإسراء : ٦٠] أراد الملعون أهلها في القرآن. وكذلك قال : (وَالطُّورِ (١)) [الطّور : ١](وَالضُّحى (١)) [الضّحى : ١] وجميع الأقسام إنما معناها ورب الطور ورب الضحى ، وهذا كثير جدا في كلام العرب ، يحذفون لعلمهم بفهم أهل اللسان والبيان ذلك ، وأنهم ليسوا كأهل الجهل والهذيان ، والعرب تقول : بنو فلان تطؤهم الطريق ، يريدون يطؤهم أهل الطريق ، وأبين من هذا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) [الأحزاب : ٥٧] يريد أنبياء الله وأولياء الله.
وجواب آخر وهو : أنا نعلم ـ وكل عاقل يعلم ـ أن الرسول عليهالسلام إنما أراد بالقرآن هاهنا شيئا محترما يتصون عليه من الأيدي ، ولم يرد نفس كلام الله القديم ، والذي يدل على صحة ذلك : أن الحافظ للقرآن : القرآن في صدره عندنا حفظا ، لا أن كلام الله القديم يحل في صدر الحافظ حلول الجسم في الجسم ، وعندهم ـ على حسب عقدهم ـ أنه حال في صدور الحافظ كحلول الشيء في الشيء ، ومع ذلك فإن الرسول ما نهى أحدا من الحفاظ أن يدخل بلاد العدو ، فلم يبق إلا أنه صلىاللهعليهوسلم أراد مصاحف القرآن التي يتصور عليها نيل أيدي العدو ، ولم يرد أن القديم يحل في المخلوق حلول الجسم في الجسم ـ حاشاه من ذلك صلىاللهعليهوسلم.
* * *
فصل
فإن احتجوا بما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لو جعل هذا القرآن في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق» قالوا : وقد أطلق عليه صلىاللهعليهوسلم أن القرآن يجعل في الإهاب ، فدلّ على أنه حال. فالجواب أن أهل العلم رضي الله عنهم ذكروا في ذلك ثلاثة أقوال :