أحدها : أن هذا كان في زمانه صلىاللهعليهوسلم دليلا على صدقه ، وكان معجزة له ، وكان إذا كتب في جلد أو رقّ أو غير ذلك ثم ألقي في النار لم يحترق. ذلك الجلد أو الرق ، فيكون معجزة له صلىاللهعليهوسلم ؛ كانشقاق القمر وغير ذلك من المعجزات ، ثم انقضى ذلك بعد موته : بدليل أن الرقق التي كتب فيها القرآن قد احترقت في زمن الصحابة وغيرهم.
الثاني : أن قوله صلىاللهعليهوسلم : «لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقي في النار لم يحترق» أراد بذلك فضل حفظه القرآن ، وأنهم لأجل ما حفظوا من كلام الله تعالى وصار حفظه في صدورهم تصير عليهم النار بردا وسلاما ، فلا تحرقهم ، كما كانت على الخليل عليهالسلام بإذن الله تعالى. وقد قال صلىاللهعليهوسلم : «نعم الشفيع لصاحبه يوم القيامة» فيكون ببركة شفاعة القرآن لصاحبه وعمله به لا تتسلط النار على إهابه فتحرقه ، وهذا صحيح ؛ لأن الإهاب هو الجلد قبل الذبح ، أو قبل الدباغة.
دليل الأول : قول عائشة رضي الله تعالى عنها في مدح أبيها الصديق رضي الله عنه : «وحقن الدماء في أهبها».
ودليل الثاني : قوله عليهالسلام : «أيما إهاب دبغ فقد طهر» فأما بعد الدباغ فلا يقال له إهاب ، وإنما يقال له أديم أو رق ، أو نحو ذلك.
الثالث : وهو الأصح والأجود : أن القرآن إذا كتب في إهاب أو غير ذلك ، وألقي في النار ، فإن القرآن لا يحرق ولا يتصور عليه الحرق ولا الغرق ولا العدم ، وإن تصور ذلك على الرق والجلد. والورق والخط والمداد. وهذا يوضح أنه مكتوب على الحقيقة. وليس بحال حلول الأجسام في الأجسام ؛ لأن المداد لما حلّ حلول الأجسام في الأجسام احترق مع الرق والورق ، والقرآن لما لم يكن حالا لم يتصور عليه العدم بحرق ولا غرق ولا غير ذلك ، وهذا واضح صحيح. يؤكد ذلك أنا إذا كتبنا اسما من أسماء الله تعالى في محل يتصور عليه الحرق والغرق والبلى والتمزق ، فإن عدم ببعض ما ذكر فإنما يعدم ويذهب المحل المكتوب فيه واللون المكتوب به. وأما المكتوب على الحقيقة وهو الرب تعالى فلا يتصور عليه شيء من العدم والذهاب ، كما أخبر تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨].
* * *