فالجواب عن هذه الأخبار : أن [منها] ما صح [و] منها [ما لم يصح] ويجمع بين الكل ، فتحمل هذه الأخبار على من فعل ذلك مستحلا لفعله ، أو فعله على وجه التكذيب للصادق فيما أخبر به أن هذا الفعل كبيرة حرام ، ونحو ذلك ، وهذا صحيح لأن الرسول صلىاللهعليهوسلم قال : «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة». فقال أبو ذر : وإن زنا ، وإن سرق؟ فقال : «وإن زنا ، وسرق ، وقتل ، وشرب الخمر ، وإن رغم أنف أبي ذر» فصحّ ما قلناه ، وقبلنا جميع الأخبار الصحاح ولم نضرب بعضها ببعض ، ولا أسقطنا بعضها ببعض ، كما يفعل أهل البدع الذين ضاهوا اليهود في قولهم : (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النّساء : ١٥٠].
فإن قيل : أليس عندكم أن الرسول صلىاللهعليهوسلم لا يشفع إلا في مؤمن ، وقد وردت الروايات «لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن» وكذلك روي أنه قال : «ليس منا من يأتينا بطينا ويأتي جاره خميصا» و «من غشنا فليس منا» و «لا إيمان لمن لا أمانة له» إلى غير ذلك ، فكيف يشفع الرسول عليهالسلام فيمن ليس بمؤمن؟
فالجواب : أن يقال لهم : هذه الأخبار لا حجة فيها ولا تعارض أخبار الشفاعة ، فإنها محتملة لوجوه إذا صرفت إليها صحت ، ولم تكن معارضة لأخبار الشفاعة.
أحدها : أن يكون المراد لا يزني ولا يسرق حين يفعل ذلك ، وهو مؤمن : أي مستحل لذلك ، حتى يصح الجمع بين هذه الأخبار وبين قوله صلىاللهعليهوسلم : «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن سرق وإن زنا وشرب الخمر» ، أو يكون أراد بذلك إذا فعله على وجه التكذيب لتحريم هذه الأشياء ، والله تعالى لم يحرمها ، أو يكون المراد ليس بمؤمن كإيمان المؤمن الذي لم يكن منه سرقة ، ولا زنا ، ولا شرب خمر أي في البر ، والطهارة ، والعفة ونحو ذلك ، ويصير هذا كقوله : «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» أراد الكمال. وهذا الفصل أفسد الحجج وأدحضها بحمد الله تعالى.
فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] قيل : معناه الرد على من أنكر أصل الشفاعة ، فأخبر تعالى أن ثم شفاعة ، لكن لمن أراد تعالى أن يشفع له وأذن في ذلك ، ولم يرد إلا لمن رضي سائر عمله ، لأن من رضي سائر عمله لا يحتاج إلى شفاعة ، ويحتمل أن يكون (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] يعني لمن كان معه عمل مرتضى. والمؤمن معه أفضل الأعمال التي ترضى ، وإن كان عاصيا فاسقا ، وهو التوحيد والتصديق ، وقوله : لا إله إلا الله. والذي لا يرضى عمله أجمع هو الكافر ، فصحّ ما قلناه.