بقي بعد هذا أمر لا بد من تقريره : وهو أن تلك الأحاديث كيفما كانت ليست من قبيل المحكم الذي لا يحتمل التأويل حتى تكون قطعية الدلالة ، فقد تناولتها أفهام العلماء قديما وحديثا ولم يجدوا مانعا من تأويلها : وقد جاء في شرح المقاصد بعد أن قرر مؤلفها أن جميع أحاديث أشراط الساعة آحادية ما نصه : ولا يمتنع حملها على ظواهرها عند أهل الشريعة ... وأوّل بعض العلماء النار الخارجة من الحجاز بالعلم والهداية سيما الفقه الحجازي ، والنار الحاشرة للناس بفتنة الأتراك ، وفتنة الدجال بظهور الشر والفساد ، ونزول عيسى صلىاللهعليهوسلم باندفاع ذلك وبدوّ الخير والصلاح .. الخ».
ومن ذلك نرى أن السعد ـ صاحب المقاصد ـ لا يقرر وجوب حملها على ظواهرها حتى تكون من قطعي الدلالة الذي يمتنع تأويله ، وإنما يقرر بصريح العبارة «أنه لا مانع من حملها على ظواهرها» فيعطي بذلك حق التأويل لمن انقدح في قلبه سبب للتأويل. ثم يحدث عن بعض العلماء أنهم سلكوا سبيل التأويل في هذه الأحاديث فعلا ، ويبين المعنى الذي حملوها عليه ، ولا شك أن هذا لم يكن منه إلا لأنه يعتقد ـ كما يعتقد سائر العلماء الذين يعرفون الفرق بين ما يقبل التأويل وما لا يقبله ـ أن ما تدل عليه ألفاظ تلك الأحاديث ليس عقيدة يجب الإيمان بها فمن أدّاه نظره إلى أن يؤمن بظاهرها فله ذلك ، ومن أدّاه نظره إلى تأويلها فله ذلك شأن كل ظني في دلالته.
ومما تقدم يتبين جليا «أنه ليس في الأحاديث التي أوردوها في شأن نزول عيسى آخر الزمان قطعية ما ، لا من ناحية ورودها ولا من ناحية دلالتها».
النظرة الثالثة في الإجماع :
بقي أن ننظر النظرة الثالثة فيما زعموا من إجماع في هذا المقام.
وأحب أن أشير هنا إلى أن «الإجماع» الذي اشتهر بين الناس أنه أصل من أصول التشريع في الإسلام قد اختلفت فيه المذاهب والآراء اختلافا بعيدا :
اختلفوا في حقيقته ، واختلفوا في إمكانه ، وتصور وقوعه.
ثم اختلفوا في حجيته. الخ مما يتبين لنا به أن حجيّة الإجماع في ذاتها غير معلومة بدليل قطعي فضلا عن أن يكون الحكم الذي أثبت به معلوما بدليل قطعي فيكفر منكره.