وأمّا ثالثا فإنّ ذكر منتهى لرفع شخص بوصل (رَفَعَهُ اللهُ) [النّساء : ١٥٨] بلفظ (إلى) ، يقضي على احتمال المجاز بحمله على رفع المكانة ، لأنّ رفع المكانة ينافيه ذكر منتهى له قطعا ، وإدخال (إلى) على ضمير المتكلم من قبيل الإضافة للتشريف ، والمعنى إلى سمائي ومنزل ملائكتي ، كما يقول أبو حيان وغيره.
وأما رابعا فإنّ رفع المكانة لا يخصّ عيسى حتى يمتنّ الله به هنا ، بل يعمّه وسائر الأنبياء والمرسلين ، بل وسائر الأبرار والأخيار.
وأما خامسا فإن حمل الرفع على رفع روحه ، بحذف المضاف ـ كما وقع في فتيا الشيخ ـ أمر لا يخصّ عيسى أيضا ، مع كون الحذف خلاف الأصيل ، فلذا يكون الرفع لشخصه ، فيشمل الرّوح والجسد معا ، وأنت لا تجد أحدا من المفسرين يحمل الرفع هنا على رفع المكانة ، أو رفع الرّوح فقط ، لظهور دلالته القطعية على الرفع الحسّيّ هنا.
وهذا كلّه مع قطع النظر عن تواتر الأخبار في الرفع والنزول ، وإلّا فمن استذكر تواتر الأخبار في ذلك ، لا يسعه أن يتشكّك لحظة في هذا الأمر ولو لم يستحضر وجوه دلالة الكتاب على الرفع والنزول ، فكيف والكتاب والسنة المتواترة والإجماع متواردة متضافرة على عقيدة الجماعة في ذلك.
وأما قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] فنصّ أيضا في الرفع الحسيّ حتما ، لأن (إِلَيَ) تمنع من احتمال المجاز بحمله على رفع المكانة كما سبق ، مثل منع (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] من أن يكون (يَطِيرُ) [الأنعام : ٣٨] مجازا على ما فصّل في موضعه.
وكلمة الفخر الرازي في بعض الوجوه عند تفسير قوله تعالى : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : ٥٥] لا تكون إلا سبق قلم منه ، لظهور بطلان ذلك رواية ودراية ، بما فصّلناه آنفا. وكم له ولغيره من وجوه لا وجه لها في النقل ولا في الدراية ، على أنه يجزم مع باقي المفسّرين بالرفع والنزول عند تفسيره للآيات كلّها ، فما ذا عليه بعد هذا لو غلط في وجه؟ سبحان من لا يسهو ولا يغلط.
وأما (مُتَوَفِّيكَ) [آل عمران : ٥٥] فمن التوفّي وهو القبض والأخذ في أصل اللغة ، ويستعمل مجازا في معنى الإماتة كما يظهر من «أساس البلاغة» للزمخشري ، فيكون معنى الآية : إني قابضك من الأرض ورافعك إلى سمائي. وقال ابن قتيبة : قابضك من الأرض من غير موت.