(يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزّمر : ٤٢] ، وجلّ كلام الله من أن يقع فيه لغو. ولا تعويل في تفسير كتاب الله على تخاطب اليوم بل على التخاطب في عهد التنزيل كما لا يخفى.
والرسالة مثلا تستعمل بمعنى الواجب اليوم ، استعمالا شائعا منذ زمن غير بعيد ، فحاشا أن نفهم من الرسالة الواردة في نصوص الكتاب والسنة هذا المعنى بتلك المناسبة ، فنلغي معنى الوحي والرسالة من الله سبحانه ، لأنّ مسايرة التطوّر في اللغة في تطوير معاني الكتاب الحكيم ، تكون تحريفا للكلم عن مواضعه حتما.
وأما قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) [النّساء : ١٥٩] ، فالضميران في (بِهِ) و (مَوْتِهِ) يعودان على عيسى ، لأنه المتحدّث عنه في السّياق ، ولأنّ عود أحدهما على غير ما يعود عليه الآخر فيه تشتيت للضمائر ، وهذا مما ينزه عنه الكتاب الكريم ، ولذا قال أبو حيان ـ وأنت تعرف منزلته في العربية ـ «والظاهر أنّ الضميرين في به ، وموته عائدان على عيسى ، وهو سياق الكلام ، والمعنيّ : من أهل الكتاب : الذين يكونون في زمان نزوله» ا ه ولا صارف عن الظاهر.
وقال ابن كثير : «وهذا القول هو الحقّ كما سنبينه بالدليل القاطع إن شاء الله تعالى ، لأنه المراد من سياق الآي في بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه وتسليم من سلّم لهم من النصارى الجهلة ذلك ، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك ، وإنما شبّه لهم ، فقتلوا الشّبه وهم لا يتبيّنون ذلك ، ثم إنه رفعه إليه وأنه باق حيّ ، وأنّه سينزل قبل يوم القيامة ، كما دلّت عليه الأحاديث المتواترة» اه. ثم ساق أحاديث كثيرة في النزول ، في (١ ـ ٥٧٨) كما فعل مثل ذلك في باب الملاحم والفتن في أواخر «تاريخه» في القسم غير المطبوع منه (١).
وكلام ابن جرير واضح جدا في تعيين إرجاع الضميرين إلى عيسى رواية ودراية ، وكذا ما ذكرناه في العدد (٣٤ ـ ١٣٦١ ه) في هذا الصدد.
وقد صحّ عن أبي هريرة في «الصحيحين» إرجاعهما إليه ، كما صحّ عن ابن عباس في رواية محمد بن بشار ، عن ابن مهدي ، عن الثوري ، عن أبي حصين ، عن ابن جبير ، عنه عند ابن جرير وابن كثير ، وهذا سند كالجبل في الصحة ، بل الرواية مستفيضة عنه بطرق أخرى.
__________________
(١) ثم طبع هذا القسم من تاريخ ابن كثير باسم «النهاية» لابن كثير.