إنّ المنهجين يرتضعان من ثدي واحد ، لا فرق بينهما في المعنى واللب ، وإنّما يختلفان في التعبير ، فأهل التفويض يعترفون بجهلهم بمعاني هذه الصفات ، وللتوقي عن التورط في مغبة التشبيه أو التقوّل بغير العلم ، يفوضون معانيها إلى الله.
وأمّا أهل الإثبات ، فلو أنّهم صدقوا في قولهم بلا تشبيه ولا تكييف ، فهم يعترفون بذلك مآلاً ، وإن كانوا يجحدون بها ابتداءً.
وإذا أردت أن تقف على أنّ نظرية الإثبات على النمط الثاني تجعل المعاني السامية والمعارف العليا الواردة في الذكر الحكيم في عداد الألغاز والمبهمات و... ، فانظر إلى ما يذكره عبدالقادر الجيلاني في « الغنية ».
يقول الجيلاني : وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل وأنّه استواء الذات على العرش ، لا على معنى القعود والمماسّة ، كما قالت المجسّمة والكرامية ، ولا على معنى العلو والرفعة كما قالت الأشاعرة ، ولا على معنى الاستيلاء والغلبة كما قالت المعتزلة ؛ لأنّ الشرع لم يرد بذلك ، ولا نقل عن أحد من الصحابة ، ولا نقل من السلف الصالح من أصحاب الحديث ، بل المنقول عنهم حمله على الإطلاق ، وقد روي عن أُمّ سلمة زوج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في قوله سبحانه : (الرّحمن على العَرْشِ استوى ) (١) قالت : الكيف غير معقول والاستواء غيرمجهول ، والإقرار به واجب والجحود كفر.(٢)
فعندئذ نسأل الجيلاني : إذا لم يكن هذا ولا ذاك ولا ذلك مراداً ، فما هو المراد من تلك الآية ، والتي تكررت في الذكر الحكيم سبع مرات؟ وهل فهم الشيخ منها أمراً معقولاً أو أوكل الجميع إلى الله سبحانه؟
وكم للقوم من هذه الكلمات المفروغة في قوالب ، ومآلها إلى الجهل بمفاهيم الآيات ومضامين الذكر الحكيم ، وكأنّه سبحانه لم يخاطبهم بقوله :
ــــــــــــــــــ
١ ـ طه : ٥.
٢ ـ الغنية : ٥٦.