الاختيارية ، بيد أنّه خلق بعض الأشياء بلا واسطة وخلق بعضها الآخر بواسطة ، وأعمال المكلّفين من القبيل الثاني ، خلقها الله بوساطة خلق آلاتها فيه ، وآلاتها هي القدرة الكلية والإرادة الكلية الصالحتان للتعلّق بكلّ من الطرفين. وليس لنا من حول ولا قوة سوى أنّنا استعملناها على أحد وجهيها ، إمّا بحسن الاختيار وإمّا بسوء الاختيار. ثمّ لا مانع عندنا من القول بأنّه سبحانه خالق لأفعال عباده ، ولكن على سبيل المجاز ، باعتبار أنّه خالق أسبابها ووسائلها.
وإذا قيل لهم : إنّ مذهبكم يستلزم أن يكون لله شركاء كثيرون في فعله ، وهم عباده المكلّفون ، وهذا يناقض عقيدة التوحيد وبرهان الوحدانية.
قالوا : لا نسلّم هذا ولا نقول به ، فإنّ الوحدانية ليس معناها نفي وجود ذوات أو صفات أو أفعال لغيره ، إنّما معناها نفي أن يكون لغيره شبه به في ذاته أو صفاته أو أفعاله. وأنتم يا أهل السنّة لا تمنعون وجود ذوات لا تشبه ذاته ، ولا تمنعون وجود صفات لا تشبه صفاته ، فلم تمنعون وجود أفعال من العباد لا تشبه أفعاله؟ وهو ما نقول به في خلق العباد لأعمالهم ، فإنّها لا تشبه أفعال الله بحال.
هكذا تجد لكلتا الطائفتين وجهة نظر قوية وتأويلاً سائغاً فيما تؤوِّله من النصوص المقابلة للنصوص التي بهرتها فرجّحتها ، ونجد أيضاً أنّ كلتا الطائفتين لا تلتزم المحظور التي تحاول الأُخرى أن تلزمها إيّاه في مقام الحجاج والجدال ، بل توجه رأيها توجيهاً ينأى بها عن الوقوع في المحظور. ثمّ نجد كلتا الطائفتين يتلاقيان أخيراً بعد طول المطاف عند نقطة الاعتقادالسديد بوحدانية الله وحكمة الله ، ولكن على الوجه الذي استبان لها وراج عندها.
فكيف يرضى منصف إذاً بتجريح إحداهما ورميها بأشنع التهم من كفر أو شرك أو هوى؟ وماذا علينا أن نرجّح ما نرجح من غير تسفيه للجانب الآخر؟ بل ماذا علينا أن نلوذ بالصمت ونعتصم بالسكوت فلا نخوض في أمثال هذه الدقائق العويصة ، والمسالك الملتوية البعيدة؟ لا سيما أنّ الرحمن الرّحيم لم يكلّفنا بها ولم يفرضها علينا.