كونه مؤمناً ، فهل يرضى بذلك في أعماق روحه ، ويراه نفس العدل ، غير متجاوز عنه ، بحجّة أنّ الله سبحانه مالك الملك يفعل في ملكه ما يشاء ، أو أنّه يقضي بخلاف ذلك؟
وأمّا ثانياً : فلا شكّ أنّه سبحانه مالك الملك والملكوت ، يقدر على كلّ أمر ممكن كما عرفت من غير فرق بين الحسن والقبيح ، فعموم قدرته لكلّ ممكن ممّا لا شبهة فيه ، ولكن حكم العقل بأنّ الفعل الفلاني قبيح لا يصدر عن الحكيم ، ليس تحديداً لملكه وقدرته. وهذا هو المهم في حلّ عقدة الأشاعرة الذين يزعمون أنّ قضاء العقل وحكمه في أفعاله سبحانه ، نوع تدخل في شؤون ربّ العالمين ، ولكن الحقّ غير ذلك.
توضيحه : إنّ العقل بفضل التجربة ، أو بفضل البراهين العقلية يكشف عن القوانين السائدة على الطبيعة ، كما يكشف عن القوانين الرياضية ، فلو قال العقل : إنّ كلّ زوج ينقسم إلى متساويين ، فهل يحتمل أنّ العقل فرض حكمه على الطبيعة ، أو يقال إنّ الطبيعة كانت تحمل ذلك القانون والعقل كشفه وبيّنه؟ فإذا كان هذا هو الفرق بين فرض الحكم وكشفه في عالم الطبيعة ، فليكن هو الفارق بين إدراكه حسن الفعل وقبحه ، وإنّ أيّ فعل يصدر منه تعالى وأيّ منه لا يصدر ، وبين فرضه الحكم على الله سبحانه فرضاً يحدد سعة قدرته وإرادته وفعله. فليس العقل هنا حاكماً وفارضاً على الله سبحانه بل هو ـ بالنظر إلى الله وصفاته التي منها الحكمة والغنى ـ يكشف عن أنّ الموصوف بمثل هذه الصفات وخاصة الحكمة ، لا يصدر منه القبيح ، ولا الإخلال بما هو حسن.
وبعبارة أُخرى : إنّ العقل يكشف عن أنّ المتصف بكلّ الكمال ، والغني عن كلّ شيء ، يمتنع أن يصدر منه الفعل القبيح ، لتحقق الصارف عنه وعدم الداعي إليه ، وهذا الامتناع ليس امتناعاً ذاتياً حتّى لا يقدر على الخلاف ، ولا ينافي كونه تعالى قادراً عليه بالذات ، ولا ينافي اختياره في فعل الحسن وترك القبيح ، فإنّ الفعل بالاختيار كما أنّ الترك به أيضاً. وهذا معنى ما ذهبت إليه العدلية من أنّه يمتنع عليه القبائح ، ولا تهدف به إلى تحديد فعله