العرض لا يبقى زمانين ، إلى آخر ما هنالك ، ولم يقتصر في الدعوة لمذهب الأشعري على ما وصل إليه من نتائج ، بل ذكر أنّه لا يجوز الأخذ بغير ما أشار إليه من مقدمات لإثبات تلك النتائج ؛ فكان ذلك مغالاة وشططاً في التأييد والنصرة ، فإنّ المقدمات العقلية لم تذكر في كتاب أو سنّة ، وميادين العقل متسعة ، وأبوابه مفتحة ، وطرائقه مسلوكة ، وعسى أن يصل الناس إلى دلائل وبينّات من قضايا العقول ونتائج الإفهام لم يصل إليها الأشعري ، وليس من شر في الأخذ بها ما دامت لم تخالف ما وصل إليه من نتائج ، وما اهتدى إليه من ثمرات فكرية. (١)
وما أُطري به الشيخ الأشعري ، على طرف النقيض ممّا جاء به نفسه في كتابه « الإبانة » ، فإنّه أيّد فيه مقالة الحشوية بأحاديث مدسوسة من جانب الأحبار والرهبان.
والحقّ أنّ الشيخ الأشعري خدم الحشوية خدمة جليلة ، فصار سبباً لديمومية أمد أنفاسها ، في الوقت الذي كانت قد شارفت فيه على الزوال والفناء ؛ فالناظر في كتاب « الإبانة » يقف على أنّه بصدد إثبات عقائد الحشوية بالنصوص والروايات ، مع الإصرار على عدم الحيادة عنها قيد أنملة.
والله سبحانه هو الواقف على سرائره ، وإنّه لماذا تاب عن الاعتزال وانضوى تحت لواء عقائد الحشوية ، وما يذكرون له من المبررات والأعذار لا محصل وراءها.
وأمّا كتابه « اللمع » وهو وإن كان لم ينسجه على غرار كتاب الإبانة ، بل أفرغه في قالب من البرهنة والاستدلال ، ولكنّه استعمل البرهان على إحياء عقائد أهل الحديث والحشوية ، ونسف الاتجاه العقلي ؛ غفر الله له ولنا.
مع ذلك ، لم يقبل منه أهل الحديث ما أراد من التعديل ، كالحسن بن علي بن خلف البربهاري ، الذي كان أكبر أصحاب أبي بكر المروزي ، وخليفته في القول بأنّ المقام المحمود هو أن يُقعِد الله رسوله معه على العرش.
ــــــــــــــــــ
١ ـ ابن تيمية عصره وحياته : ١٩٢ ـ ١٩٣.