لخروج تلک الحقائق عن دائرة عمله وحکمه بحسب الواقع ، ولکن هذا لا يضر بحکم العقل ، ولا يقلل من شأنه وأهميته ، وعندئذ قال في هذا الصدد : ( ... العقل ليس مستقلاً بالإحاطة بجميع المطالب ، ولا کاشفاً عن جميع المعضلات ... فالعقل إذا أراد أن ينتقل إلى مسائل ما وراء الطبيعة ، فهو يقرب في عماء بغير هداية ، ويقيم بنيانه بدون أساس ، ولذلک يقول الإمام عن بحث الفلسفة في الإلهيات ، ففيها أکثر أغاليطهم فما قدروا على الوفاء بالبرهان على ما شرطوه في المنطق ... ). (١)
وعليه فالغزالي لم يکن محارباً وعدواً للأسلوب العقلي الذي کان يمثل المنهج الفلسفي في التحقيق آنذاک ، ولا متخذاً له في أبحاثه المعرفية بنحو الموجية الکلية ، بل بنحو الموجبة الجزئية ، فهو من جهة لم يجعله الوسيلة الوحيدة في کشف جميع حقائق الأمور ، وکذلک لم يرفضه کل الرفض کما يتصور من اعتراضاته على الفلاسفة وکشف إغاليطهم في بعض المسائل بحسب نظره.
الأسلوب الثاني : الأسلوب الجدلي
يعتمد المتکلمون هذا المنهج والأسلوب العلمي في أبحاثهم الکلامية ، ولکنه من وجهة نظر الغزالي لم يعد ذا قيمة معرفية ؛ لأنهم لم يستندوا فيه على مرجعية العقل ، باعتباره کمرجع وأصل ليعبروا من خلاله إلى المنقول کأصل الآخر ، وإنّما يسلمون بالشريعة أولاً ، ثم يحاولون تعقلها بأساليب غير کافية ، کما أنه لا يرى العکس صحيحاً ، بأن يجعل المنقول أصلاً والعقل متفرعاً عليه ، وقد وضح هذه الحقيقة بما جاء في کلامه : ( ... لا يصلح هذا العکس ، فليس لک أن تجعل المنقول أصلاً ، والعقل تابعاً ورديفاً ) ، (٢) وهذا الموقف من علم الکلام موقف جزم وحزم أيضاً.
ويعتبر الغزالي المتکلمين نقليين من حيث الأساس ؛ لأنّهم يتمسکون بالقرآن
ــــــــــــــــ
١. المصدر السابق.
٢. أنور الزعبي ، مسألة المعرفة ومنهج البحث عند الغزالي ، ص ١٧٩.