٦ ـ في أدلّة تجرد النفس الإنسانية الناطقة
وقد ذکر الشيخ الرئيس ما يقارب ثمانية أو تسعة براهين على إثبات تجرد النفس الناطقة تجرداً عقلياً تاماً ، وسنقوم بنقل بعضها ونترک البعض الآخر إلى من يرغب التفصيل ؛ لأن النقل لجميعها يخرجنا من محل البحث ، لأن بعضها طويل إلى حدٍ ما ، وبعضها الأخر قصير إلى حدٍّ ما ، کما هو البرهان الرابع الوارد في کتاب الشفاء ، وأطولها البرهان الأول الوارد بنفس المصدر السابق ، ويعتبر هذا البرهان ـ الأول ـ أقوى من براهينه الأخرى ؛ ولذا اعتنى به الشيخ الرئيس عناية خاصة ، فقد أتى به في سائر تصانيفه بتقريرات يقرب بعضها من البعض ، فقد ذکره في کتابه النجاة ، (١) وفي کتابه المعروف بکتاب الإشارات ، (٢) وجاء في کتاب المبدأ والمعاد ، (٣) وغيرها من مؤلفاته الفلسفية.
ونحن في هذا المقام لا نستطيع الإتيان بجميع هذه البراهين لطولها ، ولکن سنقوم بذکر برهان واحد منها لتحقيق الغرض ، وحيث أن البرهان الأول يعتبر أقوى هذه البراهين وأقلها إشکالاً واعتراضاً ، وقد تعرض لتقريره الشيخ الرئيس في مجموعة من مؤلفاته کما ذکرنا قبل قليل ، فأنا نختار أحد هذه التقريرات وأخصرها ، وهو الوارد في کتابه المبدأ والمعاد ، فقد جاء فيه : ( فصل في أن المعقولات لا تحل جسماً ، ولا قوة في جسم ، بل جوهراً قائماً بنفسه ونحن الآن ملتمسون أن نعرف کيف تأخذ کل قوّة مدرکة صورة المدرک ، فنقول : المدرک إذا کان ذاتاً عقلياً فلا يجوز أن يدرکه قوّة حسيّة ، ولا قوّة في جسم بوجه من الوجوه.
ــــــــــــــــ
١. الشيخ الرئيس ابن سينا ، کتاب النجاة ، ط ٢ ، ص ١٧٧ ـ ١٧٤ ، ط مصر سنة ١٣٥٧ ه. ق.
٢. الشيخ الرئيس ابن سينا ، کتاب الإشارات ، النمط الثالث ، الفصل السادس عشر ، وکذلک في الفصل الدول من النمط السابع.
٣. ابن سينا ، المبدأ والمعاد ، المقالة الثالثة ، الفصل السادس عشر ، فصل في أن المعقولات لا تحل جسما ، ولا قوة في جسم ، بل جوهراً قائماً بنفسه.