حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري ، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي ، لا باختياري وحيلتي ، حتى انحلت عني رابطة التقليد ). (١)
والسبب الثاني الذي دفع بالغزالي لانتخاب هذا اللون من المعرفة هو نبذه للطرق الأخرى ؛ لإحساسه بشائبة التقليد للغير فيها ، وما کان هذا حاله لا يمکن أن يدرک الحقيقة ؛ لأن الذي يصده عن الوصول إليها هو إتباعه للغير وتقليده في کل ما جاء به ، عن تحقيق أو بلا تحقيق ، فمثل هذا قد أصمه عن الحق إتباعه لذلک الغير ، فقد قال فيه : ( فالحقيقة لا يمکن أن يصل إليها الإنسان عن طريق تقليد الآخرين ، مهما کانوا هؤلاء الآخرين ) ، (٢) وعليه فإن طريق الذوق ليس فيه هذا الأمر ، بل الإنسان فيه حر في فکره غير مقلد لغيره ، بل أکثر من ذلک فهو فيه حر حتى من أهوائه وعواطفه وغزائره ، وإلاّ بقي سجين هذه الدار ، فلا يرى ما هو خارج عنها ، وعندئذ لا يتحقق لها معرفة بالواقع وحقائق الأمور التي يسعى لطلب معرفتها.
أقول : وليت الغزالي اتبع الحق کما جاء به الحق ، لقوله تعالى : ( قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ). (٢)
وختاماً نقول : لم يکن غرضنا هنا مناقشة کل ما جاء به الغزالي ، نعم هناک ثمة مناقشة مختصرة رأينا من الضروري القيام بها ، وسنوافيک بها في المبحث اللاحق.
٢. في مناقشة المنهج العلمي للغزالي
مما تقدم تبيّن لنا أنّ نقده وتقييمه للأساليب العلمية المتبعة من قبل بعض المدارس الإسلامية فلسفية ، أو کلامية ، أو عرفانية کانت ، عدم الاعتدال فيها ؛ لأنا تارة نجده مادحاً وأخرى ذامّاً ، وفي الوقت الذي يکون فيه ذامّاً نجده متبعاً لطريقتهم ، وفي
ــــــــــــــــ
١. أبو حامد محمد الغزالي ، إحياء علوم الدين ، ج ٣ ، ص ٤٠٦.
٢. أبو حامد محمد الغزالي ، المنقذ من الضلال ، ص ١٨.
٣. يونس ، ٣٥.