المحلّ للطهارة أصلا ؛ لأنّها ما دامت باقية لازمة للمحلّ ولا تنفكّ عنها ، وهي على الفرض ملزومة للنجاسة ، فكانت النجاسة لازمة للمحلّ ، وهو كما ترى خلاف ما يظهر من الأدلّة ، والقول بطهارة المحلّ مع نجاسة البلّة الباقية فيه كما ترى تناقض في المقالة ، كما أنّ القول بعدم تأثّر المحلّ من تلك النجاسة مجازفة صرفة.
ومن هنا يعلم أنّ الحكم بنجاسة البلّة ممّا يفضي إلى تجويز السفه على الشارع الحكيم في إيجابه الغسل والتطهير ، إذ المفروض عدم انفكاك النجاسة العرضيّة عن المحلّ ، فلأيّ فائدة أوجب على المكلّف تكلّف الغسل ، واعتبار العفو هنا مع أنّه ممّا لا محصّل له يشبه بكونه أكلا بالقفاء ؛ لأنّ هذا العفو كما كان يمكن اعتباره بالنسبة إلى النجاسة العرضيّة ، فكذلك كان يمكن بالنسبة إلى الأصل أيضا ، فلم لم يعتبر فيه مع أنّه أسهل وأقرب إلى السمحة السهلة؟ مع أنّ القول بنجاسة البلّة مع العفو عنها ممّا يخالف مفاد الأدلّة من الأخبار المتواترة جدّا ، الآمرة بالغسل في أنحاء النجاسات وتطهير أنواع المتنجّسات ، والواردة في تعليم كيفيّة ذلك وطريقه في المواضع الّتي يختلف باختلافها الكيفيّة ؛ لأنّ مصبّ الجميع والمنساق منها عرفا وشرعا إنّما هو حصول الطهارة بذلك ، وأنّ الغرض من اعتباره تحصيلها ، ولا ريب أنّ الطهارة في المحلّ مع نجاسة البلّة الباقية فيه غير ممكنة.
وممّا يدلّ على ذلك أيضا خصوص موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سئل عن الكوز أو الإناء يكون قذرا ، كيف يغسل؟ وكم مرّة يغسل؟ قال : « ثلاث مرّات ، يصبّ فيه ماء فيحرّك فيه ، ثمّ يفرغ ذلك الماء منه ، ثمّ يصبّ ماء آخر فيحرّك فيه ، ثمّ يفرغ ذلك الماء منه ، ثمّ يصبّ فيه ماء آخر فيحرّك فيه ثمّ يفرغ منه ، وقد طهر » (١).
فإنّ نجاسة البلّة الباقية ينفيها قوله عليهالسلام : « وقد طهر » ، لما عرفت من أنّ نجاسة البلّة تستلزم نجاسة المحلّ لا محالة ، واحتمال كون المراد بالطهارة هنا العفو كما ترى.
ثمّ إذا فرضنا البلّة طاهرة ما دامت في المحلّ ، فأيّ شيء يوجب انقلاب حكمها إلى النجاسة لو فرض انفصالها بالمبالغة في العصر؟ وأيّ دليل من الشرع يقضي بذلك؟ مع أنّ الطهارة هو الأصل في الأشياء ولا سيّما المياه ـ حسبما قرّرناه وأسّسناه سابقا ـ
__________________
(١) الوسائل ٣ : ٤٩٦ ب ٥٣ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢.