المدارك (١) والمعالم (٢) ، وأوردا عليه : بكونه إثباتا للّغة بالاستدلال ، بل مستنده في ذلك ـ كما فهمه صاحب الحدائق (٣) وغيره ـ إنّما هو العرف ، وطريقة أهل اللسان الّذين عبّر عنهم بأهل اللغة ، وإنّما ذكر ذلك حكمة لكونه لهذا المعنى وعلّة له بعد الوقوع ، هدما لإنكار من أنكره ، غاية الأمر خطؤه في فهم ما ذكره من الحكمة ، ولا ريب أنّ خطأه في ذلك لا يقضي بخطئه في فهم أصل المعنى عن العرف ، ونحن نأخذ بفهمه هذا ونطرح فهمه الآخر لعلمنا بفساده.
وإلى ذلك ينظر ما ذكره ثاني الشهيدين في الروضة ـ عند شرح التعريف الّذي ذكره الشهيد الأوّل للطهارة شرعا ، وهو : « استعمال طهور مشروط بالنيّة » ـ فقال : « والطهور مبالغة في الطاهر ، والمراد منه هنا الطاهر في نفسه المطهّر لغيره ، جعل بحسب الاستعمال متعدّيا ، وإن كان بحسب الوضع اللغوي لازما كالأكول » (٤) ، فإنّ مراده بالاستعمال إنّما هو الاستعمال العرفي ، فيكون كلامه في موضع دعوى تحقّق النقل في تلك اللفظة عرفا عن المعنى اللازم اللغوي المبالغي إلى المعنى المتعدّي ، فهو أيضا نصّ في اللغة ، حكمه حكم نصّ من تقدّم من أئمّة اللغة.
ويوافقه في تلك الدعوى ما عن المعتبر (٥) وكنز العرفان (٦) من أنّ كلام أبي حنيفة موافق لمقتضى القياس غير موافق لمقتضى الاستعمال ، فإنّ ظاهر هما إرادة الاستعمال الحقيقي ، لأنّ الاستعمال المجازي في هذا المعنى ليس ممّا ينكره أحد ، حتّى أبي حنيفة الّذي ظاهر كلامه فيما أنكره إنّما هو الجري على مقتضى الأصل ، كما هو مناط حمل اللفظ المجرّد عن القرينة ، ولا ريب أنّ الاستعمال الحقيقي الّذي ادّعياه لا يكون إلّا من جهة النقل العرفي ، لاعترافهما بكون القياس اللغوي على خلافه ، فهو منهما أيضا بمنزلة النصّ اللغوي ، فيكون مسموعا.
ثمّ لا يذهب عليك أنّ كلام هذين ـ ككلام ثاني الشهيدين ـ في دعوى النقل لا يخالف كلام من تقدّم من أئمّة اللغة ، فإنّ كلامهم وإن كان خاليا عن تلك الدعوى ،
__________________
(١) مدارك الأحكام ١ : ٢٧.
(٢) حكى عنه في الحدائق الناضرة ١ : ١٧٦.
(٣) الحدائق الناضرة ١ : ١٧٦.
(٤) الروضة البهيّة ١ : ٢٤٦.
(٥) المعتبر : ٧.
(٦) كنز العرفان ١ : ٣٨ ذيل الآية ٥٠ من سورة الفرقان.