أيرى ابن حجر أنّ الصحابة بعد تلكم الأحاديث كانوا غير عارفين تلك الروضة المقدّسة التي أنبأهم بها نبيّهم الأقدس ، وأمرهم بالصلاة عليها؟ أو يراهم أنّهم عرفوا القبر والمنبر وما بينهما من الروضة ، ووقفوا على حدودها من كَثَب أخذاً منه صلىاللهعليهوآلهوسلم ثمّ اختلفوا في المدفن الشريف ، فباح به أبو بكر فأصبح بذلك أعلمهم على الإطلاق؟
على أنّه لو صحّت رواية الدفن لوجب أن يبوح بها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لمن أوصاه بغسله ودفنه (١) ، لمن ولي غسله وكفنه وإجنانه (٢) ، لمن يعلم أنّه يباشر دفنه ويلي إجنانه (٣) في منتصف الليل من دون حضور غير أهله كما مرّ في (ص ٧٥) ، لا الذي يغيب عن ذلك المشهد ، وغلبت على أجفانه عند ذاك سنة الكرى ، وتعيين المدفن من أهمّ ما يوصى به عند كلّ أحد فضلاً عن سيّد البشر ، وهذا الاعتبار يعاضد ما أخرجه أبو يعلى (٤) من حديث عائشة أيضاً ، وإن يعارض حديثها عن أبيها. قالت : اختلفوا في دفنه صلىاللهعليهوآلهوسلم. فقال عليّ : «إنّ أحبّ البقاع إلى الله مكان قبض فيه نبيّه». الخصائص الكبرى (٥) (ص ٢ / ٢٧٨).
ولعلّ تجاه هذا الحديث اختُلقت رواية الدفن.
ولو كان عند دفن جثمان القداسة حوار كما يصفه ابن حجر لتناقلته الألسن وتداولته السير والمدوّنات نقلاً عن الصحابة الحضور يوم ذاك الواقفين على الجلبة ، والمستمعين للّغط ، ولما اختصّت بوصفه صفحات الصواعق أو ما يشاكله من كتب المتأخرين ، ولا تفرّدت برواية شيء منها عائشة ، وكيف تفرّدت بها! وهي التي
__________________
(١) طبقات ابن سعد رقم التسلسل : ٧٩٨ ، ٨٠١ [ ٢ / ٢٧٨ و ٢٨٠ ـ ٢٨١ ] ، الخصائص الكبرى : ٢ / ٢٧٦ ، ٢٧٧ [ ٢ / ٤٨٢ ، ٤٨٣ ]. (المؤلف)
(٢) طبقات ابن سعد : ص ٧٩٨ [ ٢ / ٢٧٨ ]. (المؤلف)
(٣) يقال : أجنّه أي ستره والمراد دفنه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
(٤) مسند أبي يعلى : ٨ / ٢٧٩ ح ٤٨٦٥.
(٥) الخصائص الكبرى : ٢ / ٤٨٦.