فالقسم الأوّل بالليل حين يغطّي ... يغطّي بظلامه نصف الكرة الأرضية ... أو يغطّي قرص الشمس ، وهذا القسم تأكيد على أهمية الليل ودوره الفاعل في حياة الأفراد ، من تعديله لحرارة الشمس ، ونشره السكينة على كل الموجودات الحية ، وتوفير الجوّ لعبادة المتهجّدين ومناجاة الصالحين.
ويستمر السياق القرآني في القسم بالقول : (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) (١).
والنهار يبدأ من اللحظة التي يطلع فيها الفجر ، فيشقّ قلب ظلام الليل ، ثمّ يمتدّ ليملأ كلّ السماء ، ويغمر كلّ شيء بالنور ... بهذا النور الذي هو رمز الحركة والحياة ، والعامل على نمو كلّ الموجودات الحية.
في القرآن الكريم تركيز على مسألة نظام «النور» و «الظلمة» ودورهما في حياة البشر ، لأنّهما من نعم الله الكبرى ومن آياته العظمى سبحانه.
ثمّ القسم الأخير في السّورة بالخالق المتعال : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى).
فوجود الجنسين في عالم «الإنسان» و «الحيوان» و «النبات» ... والمراحل التي تمرّ بها النطفة منذ انعقادها حتى الولادة ... والخصائص التي يمتاز بها كلّ جنس متناسبة مع دوره ونشاطه ... والأسرار العميقة المخبوءة في مفهوم الجنسية ... كلّها من دلالات وآيات عالم الخليقة الكبير ... وبها يمكن الوقوف على عظمة الخالق.
والتعبير ب «ما» عن الخالق سبحانه كناية عن عظمة الذات الإلهية ، وما يحيط بهذه الذات من غموض تجعله سبحانه فوق كلّ وهم وخيال وظن وقياس.
قال بعضهم أن «ما» في الآية مصدرية ، ومعناها أقسم بخلق الذكر والأنثى
__________________
(١) يلاحظ في السّورة المباركة أن الفعل «يغشى» بصيغة المضارع ، أمّا «تجلّى» فبصيغة الماضي ، قيل إنّ ذلك يعود إلى عصر نزول السّورة ، حيث كانت الجاهلية في بداية الدعوة مخيّمة بظلامها على الأرض ، وفي هذه الحالة سيكون القسم بظلام الجاهلية ، وليس ذلك بجيّد ، ومن الأفضل القول إن هذا الفعل الماضي يفيد معنى المضارع لوقوعه بعد «إذا» الشرطية ؛ أو إنّ أصل الفعل «تتجلى» حذفت إحدى التائين ، عندئذ سيكون الفعل مؤنثا ، ولا يكون فاعله «نهار» بل سيكون التقدير : «إذا تتجلى الشمس فيه».