والاطلاع على تكون نهضاتها من أقدم عصورها ومشاهدة أجيالها وهي تخرج من الكهوف إلى الصروح ، ومن الأكواخ إلى القصور ، ومن الأودية والغابات إلى المحاكم والكليات ، ومن نقش الآثار على الأحجار إلى استنطاق الجماد واستخدام البخار ، فعليه بما خلدته الأيام على صحائف التاريخ وإن شاء الرجوع إلى العصور العافية ، والتغلغل في مهاوي القرون السحيقة ، كي يرى الإنسان الأول يزاول أعماله بسائق الفطرة ، ويترصد فريسته في ألفاف الشجر ، وأجواف الحفر ، ويتعقب الطرائد في مخارم الجبال وبطون الأودية ، أيام كان يستوطن الكهوف والغيران ، ويتسلح الحجر ، فليرجع إلى آثار تلك العصور ، (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ).
ولا نبالغ إذا قلنا ان التاريخ ما عرف في جميع أدواره عصرا هبت فيه الشعوب عن بكرة أبيها لدراسة الماضي والارتواء من مناهل ثقافته ، والتنقيب عن آثار البشرية من أقدم أزمنتها ، والبحث عن الحضارة الإنسانية كهذا العصر.
هبت أمم العالم اليوم تنقب عن مفاخر الماضي واثاره ، لتضع على كواهل أبنائها من قدسية ماضيهم وأمانة تاريخهم ما تنوء بحمله الجبال ، وتجعل من آثار ذلك الماضي أدوات تستخدم لإيقاد جذوة الوطنية في الصدور وإلهاب نار الحماسة في الرؤوس مستلهمة وحي النبوغ والتقدم من أرواح الآباء والأجداد.
ولذا كان لزاما على كل أمة تحاول النهوض الالتفات أولا إلى الماضي بدراسة تاريخها ، ومعرفة ما فيه من الحوادث والكوارث ، والوقائع والكوائن وأسباب الصعود والهبوط ، فإن حياة الأمم موصولة ، وحاضرها القريب وليد ماضيها البعيد ، ولذا قيل : «إن الأمة التي تهمل ماضيها ولا تعرفه مثل الرجل الذي يفقد ذاكرته» ، ويقول علماء الاجتماع وتباريس علم الأخلاق : (إن