طبقته ، وطلب الحديث ، وأحب الغزو ، وخرج إلى طرسوس (١) مرّات ، ولقي المحدّثين ، وسمع منهم ، وكتب العلم ، وصحب الزّهاد وأهل الورع ، فتأدّب بآدابهم ، وظهر فضله ، فاشتهر عند الأولياء ، وتميز على الأتراك ، وصار في عداد من يوثق به ، ويؤتمن على الأموال والأسرار ، فزوّجه ماجور ابنته ، وهي أم ابنه العباس ، وابنته فاطمة.
ثم إنه سأل الوزير عبيد الله بن يحيى أن يكتب له برزقه على الثغر ، فأجابه وخرج إلى طرسوس ، فأقام بها وشق على أمّه مفارقته ، فكاتبته بما أقلقه ، فلما قفل الناس إلى سرّ من رأى سار معهم إلى لقاء أمّه ، وكان في القافلة ، نحو خمسمائة رجل ، والخليفة إذ ذاك : المستعين بالله أحمد بن المعتصم ، وكان قد أنفذ خادما إلى بلاد الروم لعمل أشياء نفيسة ، فلما عاد بها ، وهي : وقر بغل إلى طرسوس ، خرج مع القافلة ، وكان من رسم الغزاة أن يسيروا متفرّقين ، فطرق الأعراب بعض سوادهم ، وجاء الصائح : فبدر أحمد بن طولون لقتالهم وتبعوه ، فوضع السيف في الأعراب ، ورمى بنفسه فيهم حتى استنفذ منهم جميع ما أخذوه ، وفرّوا منه ، وكان من جملة ما استنفذ من الأعراب البغل المحمل بمتاع الخليفة ، فعظم أحمد بما فعل عند الخادم ، وكبر في أعين القافلة ، فلما وصلوا إلى العراق ، وشاهد المستعين ما أحضره الخادم أعجب به ، وعرّفه الخادم خروج الأعراب ، وأخذهم البغل بما عليه ، وما كان من صنع أحمد بن طولون ، فأمر له بألف دينار ، وسلم عليه مع الخادم ، وأمره أن يعرّفه به إذا دخل مع المسلمين ، ففعل ذلك ، وتوالت عليه صلاة الخليفة حتى حسنت حاله ، ووهبه جارية اسمها : مياس استولدها ابنه خمارويه في النصف من المحرّم سنة خمسين ومائتين ، فلما خلع المستعين ، وبويع المعتز أخرج المستعين إلى واسط ، واختار الأتراك أحمد بن طولون أن يكون معه ، فسلم إليه ومضى به ، فأحسن عشرته ، وأطلق له التنزه والصيد ، وخشي أن يلحقه منه احتشام ، فألزمه كاتبه أحمد بن محمد الواسطيّ ، وهو إذ ذاك غلام حسن الشاهد حاضر النادرة ، فأنس به المستعين.
ثم إن فتيحة أم المعتز كتبت إلى أحمد بن طولون بقتل المستعين ، وقلدته واسط ، فامتنع من ذلك ، وكتب إلى الأتراك يخبرهم بأنه لا يقتل خليفة له في رقبته بيعة ، فزاد محله عند الأتراك بذلك ، ووجهوا سعيد الحاجب ، وكتبوا إلى ابن طولون بتسليم المستعين له ، فتسلمه منه وقتله ، وواراه ابن طولون ، وعاد إلى سرّ من رأى ، وقد تقلد باكباك مصر ، وطلب من يوجهه إليها ، فذكر له أحمد بن طولون ، فقلده خلافته ، وضم إليه جيشا ، وسار إلى مصر ، فدخلها يوم الأربعاء لسبع بقين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين متقلّدا للقصبة دون غيرها من الأعمال الخارجة عنها ، كالإسكندرية ونحوها ، ودخل معه
__________________
(١) طرسوس : مدينة بثغور الشام بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم بينها وبين أذنة ستة فراسخ. معجم البلدان ج ٤ / ٢٨.