الأوّل منها ، فبعث المستنصر في سنة سبع وأربعين : أبا عبد الله القضاعيّ برسالة إلى القسطنطينية فوافى إليها رسول طغربل السلجوقيّ من العراق بكتابة يأمر متملك الروم بأن يمكن الرسول من الصلاة في جامع القسطنطينية ، فأذن له في ذلك ، فدخل إليه وصلى فيه صلاة الجمعة.
وخطب للخليفة القائم بأمر الله العباسيّ ، فبعث القاضي القضاعيّ إلى المستنصر يخبره بذلك ، فأرسل إلى كنيسة قمامة بيت المقدس ، وقبض على جميع ما فيها ، وكان شيئا كثيرا من أموال النصارى ، ففسد من حينئذ ما بين الروم والمصريين ، حتى استولوا على بلاد الساحل كلها ، وحاصروا القاهرة كما يرد في موضعه إن شاء الله تعالى ، واشتدّ في هذه السنة الغلاء ، وكثر الوباء بمصر والقاهرة ، وأعمالها إلى سنة أربع وخمسين وأربعمائة ، فحدث مع ذلك الفتنة العظيمة التي خرب بسببها إقليم مصر كله ، وذلك أنّ المستنصر لما خرج على عادته في كل سنة على النجب مع النساء ، والحشم إلى أرض الجب خارج القاهرة ، وجرّد بعض الأتراك سيفا ، وهو سكران على أحد عبيد الشراء ، فاجتمع عليه كثير من العبيد وقتلوه ، فحنق لقتله الأتراك ، وساروا بجميعهم إلى المستنصر.
وقالوا : إن كان هذا عن رضاك ، فالسمع والطاعة ، وإن كان من غير رضى أمير المؤمنين ، فلا نرضى بذلك ، فتبرّأ المستنصر مما جرى وأنكره ، فتجمع الأتراك لمحاربة العبيد ، وكانت بينهما حروب شديدة بناحية كوم شريك قتل فيها عدّة من العبيد.
وانهزم من بقي منهم ، فشق ذلك على أمّ المستنصر ، فإنها كانت السبب في كثرة العبيد السود بمصر ، وذلك أنها كانت جارية سوداء ، فأحبت الاستكثار من جنسها ، واشترتهم من كل مكان ، وعرفت رغبتها في هذا الجنس ، فجلبت الناس إلى مصر منهم ، حتى يقال : إنه صار في مصر إذ ذاك على زيادة على خمسين ألف عبد أسود ، فلما كانت وقعة كوم شريك أمدّت العبيد بالأموال والسلاح سرّا ، وكانت أمّ المستنصر قد تحكمت في الدولة ، وحقدت على الأتراك ، وحثت على قتلهم مولاها أبا سعد التستريّ ، فقويت العبيد لذلك ، حتى صار الواحد منهم يحكم بما يختار ، فكرهت الأتراك ذلك ، وكان ما ذكر ، فظفر بعض الأتراك يوما بشيء من المال والسلاح قد بعثت به أمّ المستنصر إلى العبيد تمدّهم به بعد انهزامهم من كوم شريك ، فاجتمعوا بأسرهم ، ودخلوا على المستنصر ، وأغلظوا في القول ، فحلف أنه لم يكن عنده علم بما ذكر ، وصار إلى أمه ، فأنكرت ما فعلت ، وخرج الأتراك ، فصار السيف قائما ، ووقعت الفتنة ثانيا فانتدب المستنصر : أبا الفرج ابن المغربيّ ليصلح بين الطائفتين ، فاصطلحه على غلّ ، وخرج العبيد إلى شبرا دمنهور ، فكان هذا أوّل اختلال أحوال أهل مصر ، ودبت عقارب العداوة بين الفئتين إلى سنة تسع وخمسين ، فقويت شوكة الأتراك ، وضروا على المستنصر ، وزاد طمعهم فيه ، وطلبوا منه الزيادة في واجباتهم ، وضاقت أحوال