البلاد ، ودخلت سنة إحدى وستين وابن حمدان مستبدّ بالأمر مجاف للمستنصر ، فنقل مكانه على الأتراك ، وتفرّغوا من العبيد ، والتفتوا إليه ، وقد استبدّ بالأمور دونهم ، واستأثر بالأموال عليهم ، ففسد ما بينهم وبينه ، وشكوا منهم إلى الوزير خطير الملك ، فأغراهم به ، ولامهم على ما كان من تقويته ، وحسن لهم الثورة به ، فصاروا إلى المستنصر ، ووافقوه على ذلك ، فبعث إلى ابن حمدان يأمره بالخروج عن مصر ، ويهدّده إن امتنع ، فلم يقدر على الامتناع منه ، لفساد الأتراك عليه ، وميلهم مع المستنصر ، فخرج إلى الجيزة ، وانتهب الناس دوره ودور حواشيه ، فلما جنّ عليه الليل عاد من الجيزة سرّا إلى دار القائد تاج الملوك شادي ، وترامى عليه ، وقبل رجليه ، وسأله النصرة على الذكر والوزير الخطير ، فإنهما قاما بهذه الفتنة ، فأجابه إلى ذلك ، ووعده بقتل المذكورين وفارقه ابن حمدان ، فلما كان من الغد ركب شادي في أصحابه ، وأخذ يسير بين القصرين بالقاهرة ، وأقبل الوزير الخطير ، في موكبه ، فبادره شادي على حين غفلة وقتله ، ففرّ الذكر إلى القصر ، والتجأ بالمستنصر ، فلم يكن بأسرع من قدوم ابن حمدان ، وقد استعدّ للحرب ، فيمن معه فركب المستنصر بلأمة الحرب ، واجتمع إليه الأجناد والعامّة ، وصار في عدد لا ينحصر ، وبرزت الفرسان ، فكانت بين الخليفة ، وابن حمدان حروب آلت إلى هزيمة ابن حمدان ، وقتل كثير من أصحابه ، فمضى في طائفة إلى البحيرة ، وترامى على بني سيس ، وتزوّج منها ، فعظم الأمر بالقاهرة ومصر من شدّة الغلاء ، وقلة الأقوات لما فسد من الأعمال بكثرة النهب ، وقطع الطريق حتى أكل الناس الجيف والميتات ، ووقف أرباب الفساد في الطريق ، فصاروا يقتلون من ظفروا به في أزقة مصر ، فهلك من أهل مصر في هذه الحروب والفتن ما لا يمكن حصره ، وامتدّ ذلك إلى أن دخلت سنة ثلاث وستين ، فجهز المستنصر عساكره لقتال ابن حمدان بالبحيرة ، فسارت إليه ولم يوفق في محاربته ، فكسرها كلها ، واحتوى على ما كان معها من سلاح وكراع ومال ، فتقوّى به ، وقطع الميرة عن البلد ، ونهب أكثر الوجه البحريّ ، وقطع منه الخطبة للمستنصر ، ودعا للخليفة القائم بأمر الله العباسيّ بالإسكندرية ودمياط ، وعامّة الوجه البحريّ ، فاشتدّ الجوع ، وتزايد الموتان بالقاهرة ومصر حتى أنه كان يموت الواحد من أهل البيت ، فلا يمضي يوم وليلة من موته ، حتى يموت سائر من في ذلك البيت ، ولا يوجد من يستولي عليه ، ومدّت الأجناد أيديها إلى النهب ، فخرج الأمر عن الحدّ ، ونجا أهل القوّة بأنفسهم من مصر ، وساروا إلى الشام والعراق ، وخرج من خزائن القصر ما يجل وصفه ، وقد ذكر طرف من ذلك في أخبار القاهرة عند ذكر خزائن القصر ، فاضطرّ الأجناد ما هم فيه من شدّة الجوع إلى مصالحة ابن حمدان بشرط أن يقيم في مكانه ، ويحمل إليه مال مقرّر ، وينوب عنه شادي بالقاهرة ، فرضي بذلك ، وسير الغلال إلى القاهرة ومصر ، فسكن ما بالناس من شدّة الجوع قليلا ، ولم يكن ذلك إلا نحو شهر ، ووقع الاختلاف عليه ، فقدم من البحيرة إلى مصر ، وحاصرها وانتهبها ، وأحرق دورا عديدة بالساحل ، ورجع إلى البحيرة ،