ويقال : إنّ المعز لما رأى القاهرة لم يعجبه مكانها ، وقال الجوهر : لما فاتك عمارة القاهرة بالساحل ، كان ينبغي عمارتها بهذا الجبل يعني سطح الجرف الذي يعرف اليوم بالرصد المشرف على جامع راشدة ، ورتب في القصر جميع ما يحتاج إليه الخلفاء بحيث لا تراهم الأعين في النقلة من مكان إلى مكان ، وجعل في ساحاته البحرة والميدان ، والبستان وتقدّم بعمارة المصلى بظاهر القاهرة ، وقد أدركت من هذا السور اللبن قطعا ، وآخر ما رأيت منه قطعة كبيرة كانت فيما بين باب البرقية ، ودرب بطوط هدمها شخص من الناس في سنة ثلاث وثمانمائة ، فشاهدت من كبر لبنها ما يتعجب منه في زمننا ، حتى أنّ اللبنة تكون قدر ذراع في ثلثي ذراع ، وعرض جدار السور : عدّة أذرع يسع أن يمر به فارسان ، وكان بعيدا عن السور الحجر الموجود الآن ، وبينهما نحو الخمسين ذراعا ، وما أحسب أنه بقي الآن من هذا السور اللبن شيء.
وجوهر هذا : مملوك روميّ رباه المعز لدين الله أبو تميم معدّ ، وكناه بأبي الحسن ، وعظم محله عنده في سنة سبع وأربعين وثلثمائة ، وصار في رتبة الوزارة ، فصيره قائد جيوشه وبعثه في صفر منها ، ومعه عساكر كثيرة فيهم الأمير : زيري بن مناد الصنهاجي وغيره من الأكابر ، فسار إلى تاهرت (١) وأوقع بعدّة أقوام ، وافتتح مدنا وسار إلى فاس ، فنازلها مدّة ، ولم ينل منها شيئا ، فرحل عنها إلى سجلماسة ، وحارب ثائرا ، فأسره بها ، وانتهى في مسيره إلى البحر المحيط ، واصطاد منه سمكا ، وبعثه في قلة ماء إلى مولاه المعز ، وأعلمه أنه قد استولى على ما مرّ به من المدائن والأمم ، حتى انتهى إلى البحر المحيط ، ثم عاد إلى فاس ، فألح عليه بالقتال إلى أن أخذها عنوة ، وأسر صاحبها ، وحمله هو والثائر بسجلماسة في قفصين ، مع هدية إلى المعز ، وعاد في أخريات السنة ، وقد عظم شأنه وبعد صيته ، ثم لما قوي عزم المعز على تسيير الجيوش لأخذ مصر ، وتهيأ أمرها ، فقدّم عليها القائد جوهرا ، وبرز إلى رمادة ، ومعه ما ينيف على مائة ألف فارس ، وبين يديه أكثر من ألف صندوق من المال ، وكان المعز يخرج إليه في كل يوم ويخلو به ، وأطلق يده في بيوت أمواله ، فأخذ منها ما يريد زيادة على ما حمله معه ، وخرج إليه يوما ، فقام جوهر بين يديه ، وقد اجتمع الجيش ، فالتفت المعز إلى المشايخ الذين وجههم مع جوهر ، وقال : والله لو خرج جوهر هذا وحده لفتح مصر ، ولتدخلن إلى مصر بالأردية من غير حرب ، ولتنزلن في خرابات ابن طولون ، وتبنى مدينة تسمى القاهرة تقهر الدنيا ، وأمر المعز بإفراغ الذهب في هيئة الأرحية ، وحملها مع جوهر على الجمال ظاهرة ، وأمر أولاده وإخوانه الأمراء ، ووليّ العهد ، وسائر أهل الدولة أن يمشوا في خدمته ، وهو راكب وكتب إلى سائر عماله يأمرهم
__________________
(١) تاهرت : اسم لمدينتين متقابلتين بأقصى المغرب بينهما وبين المسيلة ست مراحل وهي بين تلمسان وقلعة بني حماد. معجم البلدان ج ٢ / ٧.