ثمان وخمسين ، فبلغه قتل ولده شعبان بعسقلان ، فخرج في شهر رمضان سنة ستين وأربعمائة ، فثار العسكر ، وأخربوا قصره ، وتقلد نيابة عكا ، فلما كانت الشدّة بمصر من شدّة الغلاء ، وكثرة الفتن ، والأحوال بالحضرة قد فسدت ، والأمور قد تغيرت ، وطوائف العسكر قد شغبت ، والوزراء يقنعون بالاسم دون نفاذ الأمر والنهي ، والرخاء قد أيس منه ، والصلاح لا مطمع فيه ، ولواته قد ملكت الريف ، والصعيد بأيدي العبيد ، والطرقات قد انقطعت برّا وبحرا إلّا بالخفارة الثقيلة ، فلما قتل بلدكوش (١) : ناصر الدولة حسين بن حمدان ، كتب المستنصر إليه يستدعيه ليكون المتولي لتدبير دولته ، فاشترط أن يحضر معه من يختاره من العساكر ، ولا يبقى أحدا من عسكر مصر ، فأجابه المستنصر إلى ذلك ، فاستخدم معه عسكرا ، وركب البحر من عكا في أوّل كانون ، وسار بمائة مركب بعد أن قيل له : إنّ العادة لم تجر بركوب البحر في الشتاء لهيجانه ، وخوف التلف ، فأبى عليهم ، وأقلع فتمادى الصحو ، والسكون مع الريح الطيبة مدّة أربعين يوما ، حتى كثر التعجب من ذلك ، وعدّ من سعادته ، فوصل إلى تنيس ودمياط ، واقترض المال من تجارها ومياسيرها ، وقام بأمر ضيافته ، وما يحتاج إليه من الغلال : سليمان اللواتيّ كبير أهل البحيرة ، وسار إلى قليوب ، فنزل بها وأرسل إلى المستنصر يقول : لا أدخل إلى مصر حتى تقبض على بلدكوش ، وكان أحد الأمراء ، وقد اشتدّ على المستنصر بعد قتل ابن حمدان ، فبادر المستنصر ، وقبض عليه ، واعتقله بخزانة البنود ، فقدم بدر عشية الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة خمس وستين وأربعمائة ، فتهيأ له أن قبض على جميع أمراء الدولة ، وذلك أنه لما قدم لم يكن عند الأمراء علم من استدعائه ، فما منهم إلّا من أضافه ، وقدّم إليه ، فلما انقضت نوبهم في ضيافته استدعاهم إلى منزله في دعوة صنعها لهم ، وبيت مع أصحابه أن القوم إذا أجنهم الليل ، فإنهم لا بدّ يحتاجون إلى الخلاء ، فمن قام منهم إلى الخلاء يقتل هناك ، ووكل بكل واحد واحدا من أصحابه ، وأنعم عليه بجميع ما يتركه ذلك الأمير من دار ومال ، وإقطاع وغيره ، فصار الأمراء إليه وظلوا نهارهم عنده ، وباتوا مطمئنين ، فما طلع ضوء النهار حتى استولى أصحابه على جميع دور الأمراء ، وصارت رؤوسهم بين يديه ، فقويت شوكته ، وعظم أمره ، وخلع عليه المستنصر بالطيلسان المقوّر ، وقلده وزارة السيف والقلم ، فصارت القضاة والدعاة ، وسائر المستخدمين من تحت يده ، وزيد في ألقابه أمير الجيوش كافل قضاة المسلمين ، وهادي دعاة المؤمنين ، وتتبع المفسدين ، فلم يبق منهم أحدا حتى قتله ، وقتل من أماثل المصريين ، وقضاتهم ووزرائهم جماعة ، ثم خرج إلى الوجه البحريّ ، فأسرف في قتل من هنا لك من لواتة ، واستصفى أموالهم ، وأزاح المفسدين وأفناهم بأنواع القتل ، وصار
__________________
(١) ويقال : بلدكوز ويقال : كمشتكين ويلقب بحسام الدولة من الأمراء القواد في عهد المستنصر بالله الفاطمي. كان غلاما لإلذكر الذي صار زمام مصر بيده بعد أن قتل ناصر الدولة. النجوم الزاهرة ج ٥.