عبادة ، فهابه المقوقس لسواده ، وقال : نحوا عني هذا الأسود ، وقدّموا غيره يكلمني ، فقالوا جميعا: إنّ هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما ، وهو سيدنا وخيرنا ، والمقدّم علينا ، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه ، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره ، وأمرنا أن لا نخالف رأيه وقوله ، قال : وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم ، وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم؟ قالوا : كلا إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعا وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا ، وليس ينكر السواد فينا ، فقال المقوقس لعبادة : تقدّم يا أسود ، وكلمني برفق ، فإني أهاب سوادكم وإن اشتدّ كلامك عليّ ازددت لك هيبة ، فتقدّم عليه عبادة ، فقال :
قد سمعت مقالتك ، وإنّ فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشدّ سوادا مني وأفظع منظرا ، ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لي ، وأنا قد ولّيت وأدبر شبابي ، وإني مع ذلك بحمد الله ، ما أهاب مائة رجل من عدوّي لو استقبلوني جميعا ، وكذلك أصحابي ، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله ، وإتباع رضوانه ، وليس غزونا عدوّنا ممن حارب الله لرغبة في دنيا ، ولا طلب للاستكثار منها إلا أنّ الله عزوجل ، قد أحل لنا ذلك ، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالا ، وما يبالي أحدنا إن كان له قنطار من ذهب أم كان لا يملك إلا درهما ، لأنّ غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسدّ بها جوعه لليلة (١) ونهاره وشملة يلتحفها ، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه ، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله ، واقتصر على هذا الذي بيده ، ويبلغه ما كان في الدنيا لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ، ورخاءها ليس برخاء ، إنما النعيم والرخاء في الآخرة ، وبذلك أمرنا الله ، وأمرنا به نبينا ، وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا من الدنيا إلّا ما يمسك جوعته ، ويستر عورته ، تكون همته وشغله في رضوانه وجهاد عدوّه.
فلما سمع المقوقس ذلك منه ، قال لمن حوله : هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط؟ لقد هبت منظره ، وإنّ قوله لأهيب عندي من منظره ، إنّ هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض ما أظنّ ملكهم إلّا سيغلب على الأرض كلها ، ثم أقبل المقوقس على عبادة بن الصامت ، فقال له : أيها الرجل الصالح ، قد سمعت مقالتك ، وما ذكرت عنك وعن أصحابك ، ولعمري ما بلغتم ما بلغتم إلّا بما ذكرت ، وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ، ورغبتهم فيها ، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ، ما لا يحصى عدده قوم معروفون بالنجدة والشدّة ما يبالي أحدهم من لقي ، ولا من قاتل ، وإنا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم ، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم ، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا ، وأنتم في ضيق وشدّة من معاشكم وحالكم ، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم ، وقلة ما بين أيديكم ، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين،
__________________
(١) في النجوم الزاهرة ج ١ / ١٨ : ليلته.