وضعفهم على ما قد رأيت ، فعجزت عن قتالهم ، ورضيت أن تكون أنت ومن معك من الروم في حال القبط أذلاء فقاتلهم أنت ومن معك من الروم ، حتى تموت أو تظهر عليهم ، فإنهم فيكم على قدر كثرتكم ، وقوّتكم وعلى قدر قلتهم ، وضعفهم كاكلة ، ناهضهم القتال ، ولا يكن لك رأي غير ذلك ، وكتب ملك الروم بمثل ذلك كتابا إلى جماعة الروم ، فقال المقوقس لما أتاه كتاب ملك الروم : والله أعلم إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشدّ منا على قوّتنا ، وكثرتنا إن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا ، وذلك أنهم قوم الموت أحب إلى أحدهم من الحياة يقاتل الرجل منهم ، وهو مستقبل يتمنى أن لا يرجع إلى أهله ولا بلده ، ولا ولده ويرون أن لهم أجرا عظيما فيمن قتلوه منا ، ويقولون أنهم إن قتلوا دخلوا الجنة ، وليس لهم رغبة في الدنيا ، ولا لذة إلّا قدر بلغة العيش من الطعام ، واللباس ، ونحن قوم نكره الموت ، ونحب الحياة ولذتها ، فكيف نستقيم نحن وهؤلاء؟ وكيف صبرنا معهم ، واعلموا معشر الروم ، والله إني لا أخرج مما دخلت فيه ، ولا صالحت العرب عليه ، وإني لأعلم أنكم سترجعون غدا إلى قولي ورأيي وتتمنون أن لو كنتم أطعتموني ، وذلك أني قد عاينت ورأيت ، وعرفت ما لم يعاين الملك ، ولم يره ، ولم يعرفه أما يرضى أحدكم أن يكون آمنا في دهره على نفسه ، وماله وولده بدينارين في السنة.
ثم أقبل المقوقس إلى عمرو ، فقال له : إنّ الملك قد كره ما فعلت ، وعجّزني وكتب إليّ وإلى جماعة الروم : أن لا نرضى بمصالحتك ، وأمرهم بقتالك حتى يظفروا بك أو تظفر بهم ، ولم أكن لأخرج عما دخلت فيه ، وعاقدتك عليه ، وإنما سلطاني على نفسي ، ومن أطاعني وقد تمّ صلح القبط فيما بينك وبينهم ، ولم يأت من قبلهم نقض ، وأنا متمّ لك على نفسي ، والقبط متمون لك على الصلح الذي صالحتهم عليه وعاقدتهم ، وأمّا الروم فأنا منهم بريء ، وأنا أطلب إليك أن تعطيني ثلاث خصال ، لا تنقض بالقبط ، وأدخلني معهم ، وألزمني ما لزمهم ، وقد اجتمعت كلمتي وكلمتهم على ما عاقدتك عليه ، فهم متمون لك على ما تحب ، وأمّا الثانية إن سألك الروم بعد اليوم أن تصالحهم ، فلا تصالحهم حتى تجعلهم فيئا وعبيدا ، فإنهم أهل ذلك لأني نصحتهم فاستغشوني ، ونظرت لهم ، فاتهموني وأما الثالثة : أطلب إليك إن أنا مت أن تأمرهم أن يدفنوني بجسر الإسكندرية ، فأنعم له عمرو بذلك ، وأجابه إلى ما طلب على أن يضمنوا له الجسرين جميعا ، ويقيموا لهم الأنزال والضيافة ، والأسواق والجسور ، ما بين الفسطاط إلى الإسكندرية ، ففعلوا.
وصارت لهم القبط أعوانا كما جاء في الحديث. وقال ابن وهب في حديثه عن عبد الرحمن بن شريح : فسار عمرو بمن معه حتى نزل على الحصن ، فحاصرهم حتى سألوه أن يسير منهم بضعة عشر أهل بيت ، ويفتحوا له الحصن ، ففعل ذلك ففرض عليهم عمرو لكل رجل من أصحابه دينارا وجبة وبرنسا وعمامة وخفين ، وسألوه : أن يأذن لهم أن يهيئوا له ولأصحابه صنيعا ، ففعل ، وأمر عمرو أصحابه فتهيئوا ولبسوا البرود ، ثم أقبلوا فلما فرغوا