كونه أحد الشهود بمصر فترة ستين عاما (١) ، إضافة إلى ثقافته الفقهية ، التى استمدها من الإمام الشافعى ، والتى جعلت له مكانة متميزة لدى قضاة مصر ، وإن كان تداخله مع رجال السلطة والحكم قد عرّضه للظلم والاضطهاد فى فترة من فترات حياته (٢) ، لكنه خرج من هذه المحنة سليما معافى ، مبرّأ الساحة ، ضاربا أروع الأمثلة فى العفو عمن ظلمه ، والإحسان إلى من أساء إليه (٣).
ح ـ أعتقد أن عمل «يونس» فى مجال القضاء ، قد أطلعه على كثير من المعلومات التاريخية ، التى يتوقع أن يكون احتفظ بقدر منها مدوّن لديه (٤) ، إضافة إلى بعض
__________________
حلقة الشافعى من بعده ، والمزنى الفقيه العظيم (ت ٢٦٤ ه) ، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم الفقيه المالكى الشافعى فى آن (ت ٢٦٨ ه) ، والربيع المرادى تلميذ الشافعى وملازمه (ت ٢٧٠ ه). وأعتقد أن تعبير الزركلى عن علم يونس ، يمكن قبوله ووصفه بالاعتدال ، إذ قال : (عالم بالأخبار ، والحديث). (الأعلام) للزركلى ٨ / ٢٦١.
(١) وفيات الأعيان ٧ / ٢٥٠.
(٢) نقصد بذلك ما تعرض له يونس من ظلم واضطهاد فى إحدى القضايا المعروفة (وخلاصتها : أن أحمد بن أبى أمية دفع بأمواله البالغة ثلاثة وثلاثين ألف دينار إلى عدد من الأوصياء على ابنته (وكان منهم : يونس بن عبد الأعلى) ، فأدوا الأموال إلى يونس إلا واحدا ، كانت عليه ديون ، سددها مما لديه من أموال الوصية. ثم جاء القاضى ابن أبى الليث ، وطالب يونس بالأموال كلها ، وحكم عليه بالسجن بعد أن شهد عليه البعض زورا بتبديد جانب من أموال الوصية (وكان حبسه من سنة ٢٢٨ ـ ٢٣٥ ه). (القضاة) للكندى ص ٤٥٤ ـ ٤٥٥ ، والمدارك ٢ / ٨٠ ـ ٨١.
(٣) ويتضح ذلك من موقف يونس من القاضى (ابن أبى الليث) ، فقد سجنه (قوصرة) ، لما قدم إلى مصر لمحاسبته ، فقيل له : أخرج يونس من محبسه ، فسوف يشهد عليه ، فلما أخرج قوصرة يونس ، قال الأخير : «ما علمت إلا خيرا». وذكر أن الشهود الزور هم الذين ظلموه. ولما أطلق القاضى ابن أبى الليث ـ بعد ذلك ـ للحكم فى قضية أموال الجروىّ ، حكم ليونس بالبراءة (القضاة : ٤٥٥ ، والمدارك ٢ / ٨١). من أجل ذلك ، عرف القاضى ابن أبى الليث فضله عليه ، فلما أخرج من مصر إلى العراق ، قابله القاضى الجديد لمصر (بكار بن قتيبة سنة ٢٤٦ ه) ، وسأله أن يشير عليه بمن يستشيره فى مصر ، فكان يونس أحد من أشار به عليه ، وعلّل ذلك بقوله : لقد قدر علىّ ، فحقن دمى بعد أن كنت سعيت فى دمه. (رفع الإصر ، نشر : جست ص ٥٠٦ ، والطبقات السنية ٢ / ٢٤٤).
(٤) نقل عنه ابن يونس قدرا من المادة فى ترجمة القاضى المصرى إبراهيم بن الجراح ، الذي ولى سنة ٢٠٤ ه حتى ٢١١ ه ، وتوفى سنة ٢١٥ ه). (راجع : تاريخ الغرباء) لابن يونس ، ترجمة (رقم ٧ ، وهوامشها).