دولتهم عند إعلانها الحرب على الدولة العلية سنة ١٢٩٤ ه الآتي خبرها في المقصد إن شاء الله تعالى ، حيث حررت أهل البلغار مع أنهم أحسن إدارة منهم وجعلت لهم ولاية ممتازة إدارتها قانونية ، فقالوا ما لنا نتحكم على جيراننا وننفع غيرنا ونهرق لأجلهم دماءنا وأموالنا ، ونحن في حالة أتعس منهم فكأنّ لسان حالهم يقول :
يا أيها الشيخ المعلم غيره |
|
هل لا لنفسك كان ذا التعليم |
فالحاصل أن مملكة الروسيا إنما تقدمت بالسطوة والقوة لمجرد حذق أمرائها ، فإن القيصر ولئن كان له التصرف المطلق لكنه دائما يراعي مصلحة المملكة ويقدّمها على حظوظه الخاصة ولا يصرف من أموال الدولة إلا في مصالحها ، وهو في حد ذاته في غاية الإقتصاد. ثم إنه يستعين بالرجال العارفين الحازمين الصادقين ولا يغير أحدا من الكبراء من منصبه إلا لمصلحة مهمة أو ذنب ثابت ، حتى أن وزيره الأكبر الآن وهو غرتشقوف له في الوزارة سبع وعشرون سنة مع كبر سنه الذي يبلغ الثمانين ولم يغيره بل أنه مرض مرضا شديدا في هاته السنة وهي سنة ١٢٩٧ ه واضطر للإستعفاء فلم يعفه وجعل له نائبا عنه لمباشرة الأشغال إلى أن تيسر له مباشرة الأحوال وعاده بنفسه في مرضه كما أنه استعفى مرارا ولم يجبه إلى ذلك ، وهو أي القيصر منقاد لتدابير وزرائه والناصحين العارفين وهكذا أسلافه ، فإن الوزير نسل رود الذي كان قبل غرتشقوف مكث في الوزارة ثلاثين سنة.
وبذلك حصل التقدّم للدولة وصارت مدنها الكبيرة لا يفرق بينها وبين مدن أوروبا القانونية لا في الإدارة الحكمية ولا السياسية ولا التحسين التشخيصي ، أما غيرها من بقية المملكة فكأنما الناس عبيد مستعملون للرعاة حتى حكى لي أحد السواح الثقات : «أن مشايخ القرى يضربون الرعية بالسياط وهم مارون بالطريق ولا يأمر الشيخ أحدا بشيء إلا ويتبعه السوط ضربا لأجل ضيافة السائح» فتعجب السائح من ذلك وقال له : «يا أيها الشيخ لا لزوم لهذا الإكرام» ، حيث أن الواقعة هي أن السائح لما قدم للقرية وبيده توصيات من الحكومة في الإلتفات إليه من الرعاة وإكرامه عمل شيخ القرية بذلك وأمر في الحال أحد الأهالي بالإتيان بعلف الدواب من عنده وأمر آخر بالإتيان بالأكل الطيب من عنده أيضا وأتبع الأمر بالضرب والشتم ، فقال له السائح المقالة المار ذكرها ، فأجابه : «بدع عنك هذا الكلام إن هؤلاء الكلاب لا يصلح فيهم إلا هذا العمل فلو أني طلبت منهم ما طلبت بأعلى ما يكون من الثمن عن طيب نفس لما أجابوا لشيء» ، وكلام هذا الشيخ وإن أمكن أن يكون فيه مبالغة لكنه لا يخلوا عن الصحة لأن الأهالي أعني أغلبهم تربوا على السذاجة الحيوانية ولم تتهذب أخلاقهم مع النشأة على الذل والهوان والتحكم الشديد ، فلو طلب منهم الحاكم شيئا اعتادوا على إعطائه مجانا بالوعد بالثمن لما صدقوا بذلك ، ورأوا أن رزقهم يؤخذ منهم قهرا وحب المال مجبولة عليه الطباع ، فيتكاسلون عند إعطائه إلا بالغضب ، فيصنع الحكام معهم ذلك الصنيع ، ولو أنهم عودوهم من الصغر والنشأة على مكارم الأخلاق وإكرام