فإن الحديث قد بين إن شفاء الناس هو تداويهم به من أمراضهم حيث قال : صدق الله أي في قوله فيه شفاء للناس ، ثم يدل الحديث أيضا على أن استعمال الدواء لا بد فيه من مقادير وأوقات ، ولذلك أمره بالتكرار لأنه تعالى كما له إرادة في جعل الشيء سببا في البرء له إرادة في خصوص مقداره وأوقاته ، وأنه لا ينبغي أن يهمل الدواء إذا لم ير منه نفع في المرة الأولى ، إذ لعله لم يكن هو المقدار الكافي لما استعد له بدن المريض ولله سبحانه وتعالى حكم في الأشياء لم تصل عقولنا للإطلاع على تفاصيلها ، فيلزمنا اتباع ما دلت العادة والتجربة على جعله سببا للمسبب بمقتضى الحكمة الأزلية ، ومن ادعى عمل الأشياء بالطبع لا يسعه إلا العجز عندما تجاريه بسؤالك : لماذا كان طبعها كذا؟ وإذا علل تقول له : لماذا كان ذلك التعليل؟ وهكذا ، بل إنهم كثيرا ما يعجزون من أوّل الأمر فيقولون : إن الشيء الفلاني يفعل كذا بالخاصية ، حيث لم يجدوا شيئا يمكن لهم به التعليل الأول ، والحق أن ذلك جميعه بخلق الله وجعل تلك الأشياء أسبابا عادية يخلق عندها ما أراده بسابق حكمته.
ولما تقدم أجمعت الأمّة على جواز استعمال الأدوية ، وإنما وقع الخلاف في جواز استعمال المحرم دواء ووقع الخلاف في الترجيح عند الحنفية ، ومحل الخلاف هو ما إذا تعين الشفاء في خصوص ذلك المحرّم ولم يوجد شيء آخر حلال يقوم مقامه ، أما إذا وجد فلا مبيح حينئذ والقائل بالإباحة يستدل بالضرورة وأنها مبيحة للمحذور ، فيكون كالخائف من الهلاك جوعا في أكل الميتة ، ومقتضى تجويزهم للكتابة بالدم على جبين صاحب الرعاف لكي ينقطع عنه ، هو ترجيح للتداوي بالمحرم ، لأن الكتابة بالدم النجس إهانة للحروف ولا سيما إذا كان فيها إسم الله وذلك محرّم قطعا (١) وإنما جاز للضرورة فلا يكون إذ ذاك حراما ويجيبون من احتج بقوله صلىاللهعليهوسلم : «لم يجعل الله شفاءكم فيما حرم عليكم» (٢) ، فإن الشيء إذا تعين فيه الشفاء يرتفع عنه التحريم.
وبيان هذا المعنى هو أن يقال : إن الأشياء المحرّمة إنما حرمت لما فيها من المفاسد
__________________
ـ وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل ٣ / ١٩ ، ٩٢ وفي السنن الكبرى للبيهقي ٩ / ٣٤٤ وفي المستدرك للحاكم ٤ / ٤٠٢ وفي شرح السنة للبغوي ١٢ / ١٤٧ وفي مشكاة المصابيح للتبريزي رقم (٤٥٢١) وفي دلائل النبوة للبيهقي ٦ / ١٦٤ وفي الدر المنثور للسيوطي ٤ / ١٢٣.
(١) إن قطع الإسلام يحصل تارة بالقول الذي هو كفر وتارة بالفعل والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد أو استهزاء بالدين صريح كالسجود لصنم أو للشمس وكذا من يكتب شيئا من القرآن بالبول [أو بالدم] بقصد الاستشفاء من مرض فإنه يكفر. ومن فعل فعل أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا عن كافر كفر. انظر تهذيب رسالة البدر الرشيد في الألفاظ المكفرات صفحة (٦) وما بعدها.
(٢) الحديث في صحيح البخاري برقم (٥٦١٤) وفي السنن الكبرى للبيهقي ١٠ / ٥ وفي جمع الجوامع برقم (٤٩٦١) وفي مجمع الزوائد ٥ / ٨٦ وفي كشف الخفاء للعجلوني ١ / ٢٧٦ وفي الدرر المنتثرة للسيوطي ٤٥ وفي كنز العمال (٢٨٣١٩ ـ ٢٨٣٢٧) وفي موارد الظمآن للهيثمي برقم (١٣٩٧) وفي تفسير القرطبي ٢ / ٢٣١ وفي فتح الباري ١٠ / ٩٦.