والمضار للمخلوق ، لأنه تعالى منزه عن الإحتياج لشيء ، وكل ما ورد به الشرع فإنما هو لهدايتنا لما ينفعنا فنؤمر به أو لما يضرنا فننهى عنه ، وحيث لم يكن في طوق عقولنا الإحاطة بعلم جميع ذلك لأن بعضها يتوقف على علوم تشيب الغراب ، وهو تعالى خالقنا الرؤوف العالم بنا ورسوله هو الأب الرحيم بخلق الله ونحن على يقين من ذلك ولله الحمد ، فما علينا إلا أن نتبع ما شرع لنا موقنين ومسلمين أن ذلك هو الصالح بنا كتسليم الإبن لأبيه العاقل ، وتسلم الجند لرئيسه الخبير من غير بحث عن موجب تكاليفه مع أن المشبه به يمكن فيه حصول الإعلام بالبواعث ، غير أنه ترك حذرا من فوات الفرص وإطالة الأمر بخلاف المشبه ، فقد علمنا عجز عقولنا عن إدراك جميع مصالحنا بتعاليلها ولذلك ما أمكن إدراكه.
قلنا إنه معقول المعنى وما لم ندركه عملنا به ، وقلنا إنه تعبدي والكل معقول في نفس الأمر ، فالشيء المحرّم إذا اضطر للتداوي به ليس المعنى أنه يرتفع الضرر الذي حرم من أجله ، بل أن الضرر الحاصل الذي يراد دفعه به أعظم من الضرر السابق فيرتكب أخف الضررين كما هي القاعدة الشهيرة ، فالخمر مثلا المحرّم لتوقع جرّه إلى إفساد العقل إذا غض الإنسان وخشي الهلاك ، جاز له شربه لدفع الهلاك الذي هو أعظم ضررا من توقع جرّه لإفساد العقل ، ولا يقال إنه على هذا يلزم التوقف في كل جزئية على علم مفسدة المحرّم الذي أريد استعماله وحرم من أجلها ومقايستها بالمفسدة التي يراد دفعها به ، مع أنك مصرح بعدم علم الجميع ، والقائلون بالجواز لم يخصصوا ما علمت مراتبه وقيس بينها ، لأنا نقول القواعد الكلية في مثل ذلك كافية في حصول المقصود ، وقد علمنا منها أن حفظ النفس هو ثاني مرتبة بعد حفظ الدين وجميع الأشياء المبحوث عنها آيلة إلى حفظ النفس من الهلاك ، والهلاك أعظم مفسدة ومضرة من كل ما يمكن أن يكون في الأشياء المحرمة من أسباب التحريم الراجعة إلى أجزاء خاصة من النفس كالعقل مثلا ، فيقدّم حفظ النفس جميعها عليها ولا يمس ذلك الدين لأن محله القلب أي الروح التي هي محل الإعتقاد ، وذلك لا يخرج منه إلا بما دخل فيه كما هي العبارة المشهورة ، ولذلك صرح الفقهاء بأنه لا يفتى بالردة (١) استعجالا حتى يثبت اضطراب العقيدة والعياذة بالله ، ولو صرح
__________________
(١) الردة : أي الرجوع وارتد فلان عن دينه إذا كفر بعد إسلامه وفي التنزيل (مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) [البقرة : ٢١٧].
واعلم أن العلماء من أهل المذاهب الأربعة قد وضعوا بابا خاصا سموه باب «الردّة» فقسموا الردة أي ما يخرج من الإسلام ثلاثة أقسام : الكفر اللفظي ، والكفر الفعلي ، والكفر الاعتقادي. وذكروا أنه يترتب على كل قسم من الأقسام الثلاثة حبوط ثواب الأعمال الحسنة جميعها وذهاب عصمة النكاح إذا حصلت من أحد الزوجين.
يحصل كثيرا من كثير من الناس الإعتراض على تكفير من يتكلم بكلمة كفر من سب الله وغيره محتجين بدعوى التأويل في الألفاظ الصريحة ، وهؤلاء يجرؤون الناس على التمادي في التورط ولا يدرون أن ـ