لا يشرع إلا مع الأسباب أو عند فقدها أما مع إمكانها فهو كالعاصي». وبكلامه رضياللهعنه يتبين الوجه في الفرق بين حالي النبي صلىاللهعليهوسلم مع صاحبه الصديق ، رضي الله تعالى عنه ، فإنه عليه الصلاة والسلام : لما هاجر إلى المدينة عند اجتماع قريش على أذيته لم يكن له عليه الصلاة والسلام من الأسباب الحامية منهم مع كثرتهم وشدة عداوتهم واتفاقهم إلا الإعتماد على أمر الله له بالهجرة ووعده له بإبلاغه إلى المأمن وانتصار الدين وظهوره ، فلما سافر واختفى في الغار مع صاحبه الصديق رضياللهعنه ، وخرجت قريش في تطلبهم ووصلوا إلى الغار ولم يكن لهم مانع ما عن تفتيشه والدخول إليه مع شدة حرصهم على ذلك ، كان سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه خائفا فزعا يدعو الله ، والرسول عليه الصلاة والسلام مطمئن يقول له ما أخبر الله به (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠]. وفي غزوة بدر لما أعد الرسول صلىاللهعليهوسلم العدة والعدد وهيأ أسباب القتال والتقى الجمعان للطعان ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الله بإلحاح حتى قال : «لأن تهلك هاته العصابة فلن تعبد بعدها في الأرض» (١) أو كما قال ، وكان الصديق رضياللهعنه يقول له : لا تحزن إن الله منجز لك ما وعدك من النصر ، ولا شك أن النبي صلىاللهعليهوسلم أكمل حالا من جميع الخلق ، فكيف اختلف حاله في الواقعتين مع أن ظاهر الأمر فيهما مع صديقه رضياللهعنه فالوجه يتبين مما قرره الشعراني في القاعدة المار ذكرها ، «وهو أن حال الغار ليس فيه مجال للأسباب لفقدانها فليس هناك إلا التوكل البحت». ولذلك كان صلىاللهعليهوسلم مطمئنا لأنه أكمل توكلا ، وأما حالة الغزوة فهي حالة الأخذ في الأسباب ثم التوكل معها ولا يسوغ التوكل البحت ، ولذلك كان صلىاللهعليهوسلم مجتهدا في الدعاء لتكون الأسباب ناجحة.
وليس للأمة إلا اتباع الرسول فالعمل بالأسباب عند وجودها مع التوكل على الله في نجاحها هو المشروع ، ولا يشكل على هذا ما ينقل عن كثير من الصالحين من تركهم للأسباب وخرق العادة إليهم ، لأنه مندفع بما قرره أبو إسحاق الشاطبي (٢) في الموافقات : «من أن هؤلاء وإن خرقت لهم العادة لكنهم لم يخرجوا عن الأسباب لأن خرق العادة من الأسباب الخفية» ، واستشهد لذلك بأدلة تشفي الغليل ، ويبينه ما وقع من العارف الرباني الإمام في علم الباطن والظاهر سيدي عبد العزيز المهدوي ، شيخ مظهر العلم سيدي محيي الدين ابن العربي الحاتمي الذي ألف لأجله الفتوحات المكية ، ويخاطبه في رسائله بقوله يا وليّ ، فإنه قذ ذكر عنده أن أحد الصالحين كان مارا بطريق فوقع في جب فمرّ بعض السابلة على ذلك الطريق ورأوا الجب ، فقالوا : إن هذا الجب يضر بالسابلة لوقوعه في الطريق
__________________
(١) الحديث في صحيح مسلم كتاب الجهاد رقم (٥٨) وفي المسند للإمام أحمد بن حنبل ١ / ٣٠ و ٣٢ وفي دلائل النبوة للبيهقي ٢ / ٣٥٤ وفي المعجم الكبير للطبراني ١٠ / ١٨١ وفي الدر المنثور للسيوطي ٣ / ١٦٩.
(٢) هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي ، حافظ من أئمة المالكية. توفي سنة (٧٩٠ ه) الأعلام ١ / ٧٥. معجم المطبوعات ١٠٩٠ ونيل الإبتهاج ٤٦.