هبة ، ثم العقاب على الجناية بالمال جعل لذلك حموده باشا على العمال أنفسهم أداء يسمى بالإتفاق ، هو في الواقع قسط مما ينهبونه من الأهالي ثم زيد على ذلك ما يسمى باللفضية ، وهو ما يجعل رشوة للواسطة بين الوالي والعامل وآخذها إما أن يعطي منها قسطا للحكومة أو يأخذ الكل على حسب قربه من الوالي ، ثم إن جميع ذلك مشروط فيه أن لا تتشكى منه الأهالي فإذا ضجت قبيلة واشتكت للوالي من عاملها عزله حالا ، ويقال له لم يؤخذ منك مقدار يجحف بالأهالي فأنت تجاوزت الحد ثم يصرف جميع ما تقدّم في مصالح الحكومة ، والقطر من مرتبات العساكر وأقواتهم وجرايات المتوظفين بغاية الاقتصاد وهي جرايات ضعيفة ، والناس إذ ذاك مقتنعون بعيدون عن الترف يكتفون بمصنوعات القطر في اللبس والمسكن والمركب يكفيهم القليل لا سيما العلماء ، فقد رأيت بخط بيرم الثاني نعمه الله في حساب خاص بشؤنه بيان مرتباته وجراياته من الأوقاف والحكومة بلغ مجموعها شهريا إلى ثلاثين ريالا وسبعة أرباع الريال التونسي ، وثمنه مع ما هو عليه من جميع وظائفه العلمية وهي رياسة الفتوى ونقابة الإشراف ومشيخة المدرسة الباشية ودرس وذلك في أوائل هذا القرن ، نعم كان له كما لبقية المجلس الشرعي جراية من الطعام وهي إثنا عشر قفيزا قمحا ومثلها شعيرا وإثنا عشر مطرا زيتا ، وكان ذلك كافيا له ولعائلته وأبنائه وكانت ولاة القطر من بني حسين بن علي يعتنون بالاقتصاد وحمل الأهالي عليه بأوجه سياسية لطيفة ، منها :
أن حموده باشا رأى كثرة لبس الشال الكشمير أي الطيلسان في الأهالي فحضر من الشال المصنوع في جربة عددا ولبس هو منه وألبس رئيس الكتبة أيضا وخرجا بذلك اللبس يوم العيد لتلقي وفود الهنا وللصلاة ، وكان في أثناء إقبال الأعيان على هنائه يلتفت إلى رئيس الكتبة ويقول جهرة نعم الشال هذا صنع بلادنا فما لنا ولإضاعة أموالنا خارجها ، والأعيان يسمعون وهم لابسون للشال الكشميري فودوا أن لم يكونوا لبسوه من الخجل ، حتى أن من سمع منهم قبل الدخول عليه أزاله واستعار من غيره الشال الجربي وانكفوا من ذلك التاريخ عن الكشميري ، وله وقائع عديدة مثل هاته وهو في الحقيقة أعقل فروع ذلك البيت الذين استولوا على القطر ، فقد أنشأ فيه ما لم يكن فيه من الحصون والقشل والسفن والذخائر ، حتى أن مبانيه الخاصة به لم تزل منتفعا بها إلى الآن كبستان منوبه الذي صار قشله للخيالة وداره بتونس المسماة الآن بسراية المملكة ، وأعانه مقام وزيره يوسف صاحب الطابع الملقب بأبي الخيرات من كثرة أياديه في طرق البر مع الإنصاف والإقتصاد الذي لم يكن القطر يتحمل سواه.
حتى أن حسين باشا لما توسع في الرفاهية زيادة عما تقدم توقفت حكومته في دين قدره خمسة ملايين ريالات أي ثلاثة ملايين فرنك ، باع بها زيتا سلما (١) للتجار الإفرنج ولم
__________________
(١) السلم : هو نوع من البيوع يعجل فيه الثمن ، وتضبط السلعة بالوصف إلى أجل معلوم. (القاموس الفقهي صفحة ١٨٢) وفي اللسان يقال : أسلم وسلّم إذا أسلف وهو أن تعطي ذهبا وفضة في سلعة ـ