الثورة لم يقع منا انتقام ولا شدة ولا ما ينقص فخر النصر الخ ، وكأنّ الدولة الإسلامية لم يبلغها الحال الذي لم يزل شبهه إلى الآن مع نص الفرمان المخالف لذلك ، ومع هذا التعذيب في الأبدان فقد أتى على أموال الأهالي عن آخرها ولم يبق للبلدان والقرى وقبائل العرب شيء مما يسد العوز ، ومن كان له أدنى شيء من القوت كان يخفيه ويرسل نسوانه لالتقاط العشب وعروق الأشجار لقوتهم ، ولقد ذكر لي أحد يبتوتات دريد أنه كان يرسل نسوته اللائي لم يعهدن التطوف في البراري لجلب عروق الترفاس وينشره على ظهر بيته ليراه أعوان العامل ويطبخ ليلا القمح في الماء من غير طحن لكي لا يسمع الناس حس الرحا فيتهم بالمال ، وذكر لي أحد الثقات من التجار أنه كان يوما جالسا عند إبراهيم العامل المذكور وهو يوصي نائبه العازم على السفر إلى القبيلة ويحرضه على خلاص المال ، فأجابه النائب بأنه يعمل غاية جهده بحيث يبيع كل ما يجد فمن وجد عنده نعجة باعها ومن وجد عنده عنزا باعها ومن ومن إلى أن قال : وفي أقرب وقت نخلص مال الدولة ونرجع.
فحنق عليه إبراهيم ووبخه ، وقال : إن مال الدولة لا يضيع وإنما القصد مال الوزير ، فقال له : الحق معك ، هو مقدم! وذهب على ذلك العزم هذا كله بعد تأكيد الأمن الذي خدع الرعية بالكتابة والكلام ، فزيادة عن الظلم هو شين على الخائن ، وقد ذكر الوزير حسين قبل خروجه من القطر الوالي بأمانه عند قدوم أهل الساحل طائعين فحنق عليه وأجابه بما يكره ، مع وجوب الوفاء بالعهد عقلا وشرعا وما كفى الناس ما هم عليه من الفقر المدقع أو المظالم التي لم تعهد ، إذ دهمهم الجوع والقحط المتسببان عن حبس المطر لكثرة الظلم ، وعن فناء الأموال التي تعمر بها الأرض في الفلاحة واشترك في العسر حتى أهل الحاضرة لإتباع مكاسبهم لمكاسب بقية أهل القطر فاقبلت أفواج الأقوام تراهم من كل حدب ينسلون متوجهين إلى الحاضرة والمدن وما وصل إليها لا القليل لفشو مرض الحمى الخبيثة فيهم ، وكان مرضا مستوبيا أفنى خلائق لا تحصى وبقيت أكثر جثثهم في الفلاة للوحوش بعد أن أفنت منهم الكوليرا عددا وافرا ، فمن ساعده الأجل ووصل إلى الحاضرة مات منهم أكثرهم في الطرقات ، ثم ابتدر أفراد من أهل الحاضرة لإغاثة أولئك المساكين وعقدت لهم جمعية يرأسها المقدس سيدي حسين الشريف (١) نعمه الله وأذن الوالي في عقدها ، وجعلوا يجمعون المال من الأهالي كل على حسب استطاعته على حالة ضعفهم الحالي الشديد التي كادت أن تلحق كثيرا منهم بأولئك الوافدين المساكين ، وشمرت الجمعية عن ساعد الجد وخففت بعض الضر بالقوت والمسكن ، وإن كان المرض تمكن منهم وصاروا إلى حالة ضعف لا توصف وفشا فيهم الموت إلى أن صاروا يرفعون خمسة
__________________
(١) هو حسن بن عبد الكبير الشريف أبو محمد فقيه نحوي مفتي تونس هندي الأصل تولى الخطابة بجامع الزيتونة وكانت خطبة من إنشائه ثم ولي الفتيا سنة (١٢٣٠ ه) واستمر عليها إلى أن توفي بالطاعون (في تونس) سنة (١٢٣٤ ه) الأعلام ٢ / ١٩٥ شجرة النور الزكية (٣٦٧) هدية العارفين ١ / ٣٠٠ إيضاح المكنون ٢ / ٥١٨ اليواقيت الثمينة ١ / ١٢٤ معجم المؤلفين ٣ / ٢٣٧.