فما دون في نعش واحد رحمهمالله ، وقد كنت كتبت لصديقي وهو غائب بوصف الحالة في القطر عندما طلب مني أن أرسل إليه نسخة من ضرب مثل للحالة المذكورة في القطر التونسي ، وأصور ذلك بصورة واقعة تاريخية مما ينسب لرؤيا رآها بعض ملوك ألمانيا في القرون المتوسطة ، ونصها :
رأى بعض ملوك ألمانيا في القرون المتوسطة من تاريخ المسيح عليهالسلام رؤيا فهاله أمرها فبحث عن معبر يعبرها له ـ وهو عندهم المنجم لأن أصحاب التنجيم هم الذي كانوا يدعون معرفة علوم الحدثان ـ فحضر المعبر بين يديه وقال له الملك : إني رأيت البارحة في المنام ما هالني أمره ولا يبعد شأنه عندي من منام فرعون في مصر في أيام يوسف الصديق عليهالسلام ، وذلك أني رأيت ثلاثة جرذان مجتمعة فانتبهت أولا قبل استكشاف حالها ثم نمت ثانية فرأيت جرذة من تلك الجرذان على غاية من العجب والهزال بحيث أن سائر ضلوعها بادية ولا تستطيع الثبات على رجليها ، ورأيت الجرذ الثاني على غاية من السمن يترعرع في مشيه ترعرع القنفذ ، ثم تأملت الجرذ الثالث فرأيته أعمى من كلتي عينيه ، لا يبصر بها شيئا فانتبهت ، ثم نمت الثالثة فرأيت الجرذان الثلاثة معا على تلك الحالة فالسمين يقود الأعمى والأعمى يقود الهزيلة فانتبهت وهم يتقاودون فأفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون؟ فأجابه المعبر بقوله : سيدي إن رؤياك أشهر من أن تعبر ولكنها تكتب وتسطر ، أما الجرذة الهزيلة فهي مملكتك والسمين هو وزيرك والأعمى هو أنت أيها الملك يقودك وزيرك إلى ما فيه صلاح نفسه وتقود أنت رعيتك إلى ما فيه هلاكك وهلاكهم. انتهى.
وكتبت إلى صديقي في ذيلها ما نصه : هذه حال رؤيا القرون المتوسطة أما رؤية حال القرون الأخيرة ، في هاته الحضيرة ، مما دهاها من النفوس الشريرة ، فهي سنو يوسف عليهالسلام التي كانت تعبيرا لتلك الرؤيا ، على ما فيها من البلاء ، فلو رأيت ما عليه القرار ، لملئت رعبا ولوليت منه الفرار ، من ذئاب تغتال ، وثعالب تحتال ، مجتهدة في قلب الرحال ، وتشتيت الرجال ، وثعبان شاغر فاه لابتلاع الأموال ، فيا لها من حال يرثى لها من رام النزل ، وتخر لشدتها شامخات الجبال ، افتضحت فيها ربات الحجال وهوت الإيالة إلى الزوال ، وتمكن من القلوب الزلزال ، وتقاربت الآجال وانقطعت الآمال ، وعد الصلاح من المحال ، فقد فاز من نهض بنفسه ، واستراح من فتنة باطنه وحسه ، إذ الآيات وردت على ذلك ناصة ، فقال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥]. ففاز المخففون ، وابتلى المتأهلون وو الله العظيم ، ونبيه الكريم ، طالما نهضت عزائمي إلى الترحال ، فأثقلتني قيود العيال ، مع ما أنا عليه من الوحدة عن أخ شقيق ، أو قريب يخلفني فيهم عند الضيق ولم أستطع التخلص بكلي ، لما يخفى مما يثقل كلي ، وأقسم بالقرآن ، وصفات الرحمن ، أنني عرضت للبيع أملاكي ، لأتخلص بها من إشراكي ، وأستعين منها بالأثمان فلم أجد من يصرف لهذا الوجه عنان ، ولو من أعيان الأعيان ، فالناس حيارى في الأقوات ، تائهين في جلب الضروريات ، يكادون من القحط أن يأكلوا الحديد ، ويقولون هل من مزيد. (وَتَرَى