سيدي وبلادي أكون خائنا لأمانة الإستشارة ، نرى أن هذه الزيادة في مال الإعانة تؤدي إلى زوالها بالمرة أو تلجىء إلى مال أكثر منها لتجهيز الجيوش لغصب الناس ، ولا نجد في السنة التي بعدها ما يقارب الإعانة الأولى هذا باعتبار القدرة على الغصب ، ولعمري أنها مقالة دين ونصح تجد ثوابها يوم تجد كل نفس ما عملت» الخ كلامه.
وصرح بمثل ذلك في المجلس الأكبر أيضا ولما سأله بعض أعضائه سرا عما أوجب تسليمه قال : إني رأيت السقف يريد أن ينقض ولم أستطع استدراكه ولا وجدت أذنا صاغية فخرجت من تحته وعلي بخويصة نفسي ، ثم لما أبطل القانون بقي الوزير خير الدين في بستانه مقبلا على شؤون نفسه لا يختلط بالحكومة إلا نحو يومين في الشهر يتوجه إلى الوالي للسلام عليه أو عندما يدعوه لأمر ما ، كما وقع عند قتل الشهيدين إسماعيل السني ورشيد لان الوالي جمع بعد ذلك جميع رجال حكومته وأعلمهم بالقتل ، ورأيت في صفة المواطن بخط الوزير ابن أبي الضياف الذي كان حاضرا فيه ما نصه :
وقال له الوزير المنصف أبو محمد خير الدين : «نرجو الله أن يكون هذا حد البأس وأن لا تقع ندامة على هذا الاستعجال بعد وصولهما إلى محبسهما لأن طبع الزمان ينافي هذا الإستعجال فاغتاظ الوالي وكاد أن يستهويه الغضب لو لا لطف الله بخير الدين الخ». وله في أمثال ذلك من النصح والإقدام كثير ، وفي أثناء استعفائه كان التزاور بينه وبين الوزير مصطفى خزنه دار مستمرا لقرابة المصاهرة ولا يتداخل معه في رأي من تصرفاته ، كما أن الأعيان من المتوظفين والأهالي يزورونه ولا يخوض معهم في شيء من أحوال سياسة البلاد متجنبا القيل والقال مستكفيا في التأنس وإراحة البال بخواص من أصحابه مقبلا على مطالعة الكتب والتأليف ، فألف كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» (١) وهو أول كتاب مبتدع في السياسة التي يقتضيها الحال والشرع ، وكفى بتقاريظ العلماء فيه مع أن الرجل إذ ذاك بعيد عن شائبة التملق إليه ، ثم لما شددت الأجانب في طلب أموالهم وأنشىء الكومسيون المالي باتفاق الدول دعاه الوالي إلى رياسة ذلك الكومسيون فامتنع ولما ألح عليه الوزير السابق ، قال له ما معناه : إن الحال قد بين التباين بين مهيعي ومهيعك في طريق السياسة وأنت رجل مثل والدي لك التقدم عليّ فإن وافقتك خنت ديني وأمانتي وإن خالفتك صرت إلى العداوة معك فالأولى بقائي على ما أنا عليه.
فأجابه بترك جميع ما مضى وأن الحال قد بلغ النهاية وأنه لا يريد في المستقبل إلا الإصلاح وموافقة الرأي ، فأعاد الوزير خير الدين مقاله وأنّ طبع الوزير مصطفى خزنه دار لا يوافق السيرة التي يراها هو ، فأكد له مزيد الموافقة في عدة مواطن وقبل إذ ذاك الوزير خير الدين رياسة الكومسيون ، ومن هذا الوقت وهو سنة ١٢٨٦ ه تنسب التصرفات إليه وإن
__________________
(١) انظر معجم المطبوعات العربية صفحة (٨٥٤).