وقدم به رسولهم على الوالي في مجلسه العام فقرىء عليه فإذا فيه تفصيل الواقع والإشارة إلى أن الخطب عظيم ، فاهتز الوالي وتوقى عاقبة الأمر وأحضر الجاني وأمر بنزع رتبته وحبسه ثم نفيه إلى حصن جربه ، وقدم على أهل المجلس باشكاتب ووزير الشورى وتأسف لهم على ما وقع وهدأ بالهم بما صدر من الحكم فاقتنعوا في الجاني بما وقع ، ولكنهم طلبوا مواجهة الوالي وقصوا على باشكاتب المذكور ما هو حال بالقطر مما تقدم شيء منه ، إلى أن بلغ الحال إلى تلك الدرجة وتوقعهم لما هو أعظم ، وكان شيخ الإسلام يبكي على حالة من لا أرب له في الدنيا وكل تكلم بما بدا له من فظاعة الحال فأبلغ باشكاتب ما سمع وما رأى فاضطربت أفكار الوالي وتكاثر الكلام في الناس وكانوا كلهم على كلمة واحدة في اتباع أهل المجلس الشرعي ، ومما ذكر إرادتهم إنهاء الأمر والشكاية إلى خليفة المسلمين وطلب إجراء ما تضمنه الفرمان المؤرخ في شعبان سنة ١٢٨٨ ه من إجراء العدل والإنصاف في الرعايا ، وبلغ الوالي قصد العلماء وهو طلب تشكيل مجلس للنظر في المصالح وفي أعمال المأمورين لكي لا يقع مثل ما وقع ، وخشي مما شاع من تداخل الخلافة الكبرى لظنهم أن السلطان لا يرضى بضياع أهالي تونس لمخالفة السيرة الإدارية لما هو مشروط في الفرمان السلطاني ، سيما وقد بلغ الأمر إلى ما هو راجع إلى الشرع وحمايته وأن ذلك أيضا يجري إلى تداخل بقية الدول العالمين بقبح السيرة ، مع كون الصدر بالدولة العثمانية إذ ذاك هو خير الدين باشا الذي يراه عدوا له ، فأرسل الوالي إلى العلماء ثانيا يقول لهم : أمهلوني بضع أيام ، فإن جعلت ترتيبا سياسيا يقنعكم فاقدموا إليّ حينئذ شاكرين وإلا فلكم أن تبدوا ما يظهر لكم ، وكان هذا رأي أشير به على الوزير بأن يعمل كما قيل : «بيدي لا بيد عمر» (١) وخشية تفاقم المطالب على ذلك النحو ، ووقع إذ ذاك مبادىء إنحلال في عزم أهل مجلس الشريعة لأن رئيسهم تقرب إليه الوزير سرا ، فانحط حرصه وتوجهت أطماع البعض إلى المسابقة لإرضاء الوزير فأجابوه : بنعم ، ثم جمع الوالي وزراءه وأعلمهم متأسفا من مطلب أهل الشريعة بأنه يريد أن يجعل مجلسا مركبا منهم ، أي من الوزراء ورؤساء الإدارة دون غيرهم من الأهالي للنظر في المصالح وجريان السياسة ، فأجابوه : بأن ما يظهر له حسن فهو حسن ، وكان هذا الجمع من الوزراء والمستشارين مشتملا على جميعهم حتى أن الوزير حسين كان إذ ذاك قدم من إيطاليا لمصالح في مأموريته فصادف الواقعة ، وكان ممن وافق الوالي على رأيه في جعل المحتسب والمحتسب عليه واحدا خلافا للمعقول ، ولما يعلم من طبعه من لزوم الإحتساب الحقيقي على تصرف المأمورين بثقات من الأهالي إلى غير ذلك من أوجه العدل ، ومع هاته الموافقة فلم يسلم من القدح.
__________________
(١) هذا المثل قالته ابنة الزباء ملكة الجزيرة وقنسرين لما وقعت في أيدي قصير وعمرو ، وكان لها خاتم فيه سم فمصته مفضلة أن تقتل نفسها قبل أن يقتلها عمرو انظر جمهرة الأمثال للعسكري ١ / ١٨٥ رقم المثل (٢٩١) والقصة في صفحة (١٩١).