الجميع شرعا على مذهبنا الحنفي الجواز ، وكذلك المعمول به من المذهب المالكي ، لابتنائه على مسألة الأصل في الأشياء الإباحة وهي مسألة خلافية ، فقالت طائفة : الأصل الإباحة حتى يرد المحرم ، وقالت طائفة : بالمنع حتى يأتي المبيح ، وقالت طائفة : بالتوقف والصحيح الأوّل لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩]. فجميع ما في الأرض خلق لمنفعتنا فنستعمل كل شيء في محله إلا ما ورد فيه المنع ، ويشهد له أيضا قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته» (١) وقوله عليه الصلاة والسلام : «دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» (٢) وكل من الحديثين منقول في الصحيح ، وكان ورود الحديث عقب السؤال عن أشياء لم يرد فيها حكم بالتحريم فدل على الإباحة.
وهذا التبغ لم يكن معروفا زمن البعثة وإنما عرف بعد الإكتشاف على أمريكا كما تقدم ، فيكون حكمه هو الإباحة الأصلية ، وكان الإستحياء من استعمال التدخين مطلقا أو النشوق أمام الوالد والكبراء مبني على أصل آخر غير التحريم ، وهو أنه لما كان فيه خلاف فالورع تركه إذ الورع هو ترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس ، ولما كان الأصل في المؤمنين هو السلوك على أكمل الصفات فكأن أهل تونس يستحون من ترك الورع أمام ذوي المقام ، كما أنه لا يوجد في الحاضرة أماكن للملاهي أي الملاعب إلا في رمضان ، فتكون فيها أماكن للصبيان ليلا يلعب فيها بتصاوير من وراء الستار بالخيال من الصور في نور المصابيح ويسمى المكان خيال الظل ، وربما أحضر فيها نوع من السماع ، وصورة اللعب هي تشخيص حكاية بصور من الجلد على هيئة المحكي عنه ، واللاعب يتكلم على لسانها والجميع من وراء الستار بحيث يشخص للناظرين من خارج الستار كأن الواقعة مشاهدة وإن كانت الصور صغيرة طولها قدر شبر ، والأغلب أن تكون الأماكن وسخة ولا يدخلها إلا الصبيان وبعض من لا مروءة له من الرعاع لتقضية الأوقات فيما لا فائدة فيه سوى السخرية والضحك وإضاعة الزمان ، والأغلب في الحكايات أن تكون مضحكة مما يدركه الصبيان وربما شخصوا المستحيلات العادية كالغول والشيطان إذ هذا لا يرى ولا تعرف صورته بحيث يصح أن يقال إن تلك الملاهي لا ثمرة فيها إلا مجرد لهو الصبيان ، وكان الأصل في إساغتها ما نص عليه فقهاؤنا في كتاب الحضر والإباحة من جواز شراء اللعبة للصبيان ،
__________________
(١) الحديث في صحيح البخاري برقم (٧٢٨٩) وفي سنن أبي داود برقم (٤٦١٠) وفي صحيح مسلم الفضائل (١٣٢) وفي المستدرك للحاكم ٣ / ٦٢٦ وفي تفسير القرطبي ٦ / ٣٣٥ وفي مشكل الأثار للطحاوي ٢ / ٢١٢ وفي جمع الجوامع للسيوطي (٦٢٢٢) وفي مشكاة المصابيح للتبريزي (١٥٣).
(٢) الحديث في البخاري برقم (٧٢٨٨) ونصه : حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «دعوني ما تركتكم ، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» والحديث في الشفا ٢ / ١٩ وفي سنن الدارقطني ٢ / ٢٨١.