الدين من الطريقين طريق العلم وطريق الجهاد. حتى إن أحمد بيرم توفي بجراحة أصابته في محاربة الجزايريين لمراد باي أمير تونس إذ ذاك سنة ١١١٢ ه وكأن هذه الخدمة السياسيّة أثرت في صاحب الترجمة مع قرابته لوزير البحريّة حينئذ فصار له ميل كلي للتداخل في الأمور الملكيّة ومعرفة أحوال الحكومة. وقد كان جده محمود خوجه رام إدخاله في الخدمة العسكريّة لو لا ممانعة عمه شيخ الإسلام بيرم الرابع فدخل صاحب الترجمة إلى جامع الزيتونة وقرأ على مشايخ الوقت المعدودين. ولم يمنعه ذلك عن إشغال فكره بما يهواه من أمور الإدارة مع تباعد أهل العلم عادة عن كل ما هو خارج عن دائرة دروسهم ، وقد جرت عادة الكثير من العلماء والأدباء بتونس أن يكون لكل واحد منهم سفر شبيه بالسفينة يسمونه «كناشا» يجمعون فيه ما يحلو لديهم جمعه من إنشاآتهم أو إنشاآت غيرهم علميّة وأدبيّة نظما ونثرا متضمنة الفوائد المختلفة في فنون ومعان شتى ، وقد خطى صاحب الترجمة على خطاهم وعمره سبعة عشر سنة وأول ما افتتح به كتابه ما تجمع لديه من أوامر وقوانين ونظامات في شؤون الحكومة ، أصدرها إذ ذاك صهره الأمير محمّد باشا وهذا يدل دلالة واضحة لا شبهة فيها على ميل صاحب الترجمة وتعلقه بأحوال السياسة ، وقد كان في حال صباه يرى العربان يفدون على والده وهو مشغول بالزراعة يتضجرون ويتوجعون مما يصيبهم من ظلم الحكام وتشديدهم في نهب الأموال بسائر الطرق الّتي اخترعوها في ذلك الوقت مما هو مبسوط في الكلام عن سياسة تونس الداخليّة في «صفوة الإعتبار» ، فأثر فيه نحيبهم وبكاؤهم فأوقف حياته من ذلك العهد على الانتصار للرعايا وتخفيف الاستبداد عليهم والسعي وراء نشر القوانين وتأسيس المجالس النيابيّة ، والميل بكل جوارحه للحريّة مع ما جرت به العادة من تباعد ذوي البيوتات عن مثل ذلك ، حتى لقد بلغ به الولع بالحرية وحب المجالس الشوروية أن تخالف رأيا يوما وهو صغير السن لا يتجاوز من العمر عشرين سنة مع أبيه وابن عمه عندما افتتح الأمير الصادق باشا المجلس الأكبر وأسس قوانين عهد الأمان Constitution (كونستيتسيون) ، فكان صاحب الترجمة ينتصر لهذه المستحدثات ويتوسم فيها خيرا للبلاد وذانك يخالفانه مع أن أحدهما كان من جملة أعضاء المجلس ، لما غرس في أذهان أصحاب البيوتات من التنحي عن مثل هذه المستحدثات الّتي لا تروق في أعين حكامهم.
وبعد وفاة عمه الشيخ بيرم الرابع ولاه الأمير مشيخة المدرسة العنقيّة في ٦ جمادى الأولى سنة ١٢٧٨ ه فباشر التدريس فيها ومن عادة علماء تونس من مشايخ المدارس أن يقرأوا فيها صحيح البخاري خصوصا في الأشهر الثلاثة المكرمة واعتبارا من ١٥ رمضان يبتدىء كل واحد منهم بحسب الدور بختم ما قرأه ، وذلك بأن يتلو الحديث الشريف الذي وقف عليه ويكتب عنه ما يعن له من الشروح والتعليقات ويكون لذلك مجلس حافل يستمر من العصر إلى قريب الغروب وتتوالى الاحتفالات المذكورة إلى الليلة السابعة والعشرين من رمضان حيث يكون ختم جامع الزيتونة ودور المدرسة العنقيّة في اليوم الخامس والعشرين