منه ، وقد حضر الأمير بنفسه ذلك الختم في تلك السنة تشجعيا للشيخ الجديد وكان حديث الختم قوله عليه الصلاة والسلام «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» وفي ٩ جمادى الثانية سنة ١٢٧٨ ه صار مدرسا في جامع الزيتونة من الطبقة الثانية ، وفي ١٥ رجب سنة ١٢٨٤ ه رقي مدرسا من الطبقة الأولى فاستمر مباشرا للتدريس مشغولا بإدارة أملاكه وعقاراته وأموره الخصوصية وتوفي والده إلى رحمة ربه في ١٤ جمادى الأولى سنة ١٢٨٠ ه وترك له ثروة عظيمة.
وفي تلك الأثناء ظهرت الفتنة العموميّة في الإيالة التونسية متسببة عما كان يتوقعه ويخشاه من عاقبة ظلم الرعيّة واستبداد الحكام ، وقبيل ذلك أقفلت المجالس الشورويّة الّتي كان صاحب الترجمة يتولع بها ويهواها ولا يتوسم لخير المملكة سواها ، وكأن ذلك أثر عليه تأثيرا شديدا حتى أنه كاتب أحد أصدقائه من أمراء المسلمين المقيمين بأوربا بما نص محل الحاجة منه : «فيا لها من حال. يرثي لها من رام النزال. وتخر لشدّتها شامخات الجبال». إلى أن قال : «فقد فاز من نهض بنفسه. واستراح من فتنة باطنه وحسه. إذ الآيات وردت على ذلك ناصة. فقال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] ففاز المخففون. وابتلى المتأهلون. وو الله العظيم ونبيه الكريم. طالما نهضت عزائمي إلى الترحال. فأثقلتني قيود العيال. مع ما أنا عليه من الوحدة عن أخ شقيق. أو قريب يخلفني فيهم عند الضيق. ولم أستطع التخلص بكلي. لما لا يخفى مما يثقل كلي. وأقسم بالقرآن. وصفات الرحمن. أنني عرضت للبيع أملاكي. لأتخلص بها من أشراكي. وأستعين منها بالأثمان. فلم أجد من يصرف لهذا الوجه أي عنان. ولو من أعيان الأعيان الخ».
ومن ذلك الحين اشتد اتصاله بالوزير خير الدين باشا إذ كان هو رئيس المجلس الأكبر الذي الغي وكانت مناسبة الوصلة بينهما حبهما للحرية وتعميم الشورى في المملكة وهما كما لا يخفى القوّتان الوحيدتان لحفظ استقلال البلاد من التلاشي ، ولذلك فإنه لما تولى خير الدين باشا الوزارة الكبرى في تونس في رمضان سنة ١٢٩٠ ه كان صاحب الترجمة من أكبر أنصاره ومحازبيه وتظاهر بذلك تظاهرا كليا حتى نشر في الرائد التونسي الذي هو جريدة الحكومة الرسميّة مكتوبين أظهر فيهما انبساط الأهالي من تغيير الوزارة وبين غلط المنتصرين للحاكم السابق وأنهم فئة قليلة لا تحب خير البلاد ، وكان بذلك أول تونسي جاهر بآرائه السياسية في الجرائد تحت إمضائه على ما أظن وزاد على هذا التظاهر الأدبي بأن سعى في أعمال تظاهر مادّي وذلك بأن اتفق مع علماء جامع الزيتونة على إقامة احتفالات في الجامع شكرا لله على انقاذ البلاد من عهد الجور وإدخالها في عصر الإطمئنان والرجوع لعهد الأمان ، وحصل بالفعل ذلك الإحتفال وأعقبه كثير مثله في جهات الحاضرة وبقيّة بلدان المملكة ، فكانت نهضة حقيقية وطنيّة صادرة عن إخلاص نيّة حبّا في الحريّة وإستقامة الأحكام.