يعتمد فيها المؤرّخون على التوراة وهي قد وقع فيها التحريف قطعا في كثير من الآيات لا سيما ما يتعلق بالتاريخ تحريفا فاحشا ، ولا يلتفت لغلط ابن خلدون (١) في دعواه عدم التحريف بعد إثباته بالعيان ، وفيما أثبته الشيخ رحمة الله قدسسره في كتاب إظهار الحق من الإختلاف الكثير في التاريخ بين نسخ التوراة القاضي بعضها باجتماع نوح وإبراهيم وبعضها بالبعد الكثير بينهما ، وحرره مؤرخوهم أنه سنة (٣٥٢) مع أن العبرانية تقضي باجتماعهما لأن نوحا مات بعد ولادة إبراهيم ب ٥٨ سنة ، والسامرية تقتضي أن إبراهيم ولد بعد موت نوح ب ٥٩٢ سنة ، واليونانية تقتضي أنه بعده ب ٧٣٢ سنة والأولى يخالفها الإجماع والأخر بينهما التناقض التام ، وغاية المحقق أن إبراهيم لم يجتمع بنوح في عصر عليهماالسلام ، والإختلافات على هذا النمط وعدم التحرير في التواريخ كثير جدّا فلا اعتماد حينئذ على ما هو موجود من التوراة ، نعم أن متأخري المؤرخين قد اعتنوا بهذا الفن وحرروه باستدلالات من الآثار القديمة والإطلاع على لغات قديمة لكن لم نطلع إلى الآن على أدلة وجدوها تثبت مدة زمن ذي القرنين على فرض تعينه وكم عدد السنين بيننا وبينه.
وأما ثانيا : فلا يبعد أن يكون لذي القرنين إذ ذاك من آلات حمل الأثقال وتيسير السفر ما لا يعلم الآن ، ويداعمه قوله تعالى في حقه : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) [الكهف : ٨٤] مما يقتضي اتساع اقتداره وتهييء الأسباب لمقاصده ، كعلم جر الأثقال مثلا الذي شوهدت الآن آثاره مما لم يقدر عليه متأخروا هذا العصر ، وكذلك النحت للقطع الهائلة التي لم تعلم كيفية قطعها ونقلها ، سيما وقد وجد في مصر من صورة السلك الكهربائي والرتل ما يقتضي علمه سابقا ، مع صور آلات أخرى غير معلومة كما سيأتي الكلام عليه في أحوال مصر.
فيمكن أن تكون حالة الأرض على هيئتها هاته ولذي القرنين وعلمائه وجنوده من المعارف والآلات ما تيسر لهم به الوصول إلى الأماكن الصعبة مما لم نعلمه الآن ، وأما قول بعض المؤرّخين : «إن الواثق (٢) من بني العباس أرسل معتمدين إلى السدّ وقاسوا بابه وقفله إلى غير ذلك من الصفات التي ذكرت له». فإنا لم نكن على ثقة منه ولم نعتمد عليه ، سيما ولم يعين أولئك المؤرخون مكانه وإنما يقتضي كلامهم أنه في الجهة الشمالية الشرقية من آسيا ، فلا يبعد أن يكون ما وصلوا إليه هو سور الصين ، وإذا فرضنا أنه هو المراد بالسد في النصوص الواردة ، يلزم حمل الصفات المذكورة فيها على بقاع من ذلك
__________________
(١) هو عبد الرحمن بن محمد بن محمد ابن خلدون أبو زيد ولي الدين الحضرمي الأشبيلي (٧٣٢ ـ ٨٠٨ ه) مؤرخ فيلسوف عالم اجتماعي بحاثة. توفي بالقاهرة. الأعلام ٣ / ٣٣٠ نيل الإبتهاج (١٧) تعريف الخلف ٢ / ٢١٣ العبر ٧ / ٣٧٩ دائرة المعارف الإسلامية ١ / ١٥٢ نفح الطيب ٤ / ٤١٤ وفي الضوء اللامع ٤ / ١٤٥ رقم الترجمة (٣٨٧).
(٢) هو هارون (الواثق بالله) ابن محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد أبو جعفر (٢٠٠ ـ ٢٣٢ ه) من خلفاء الدولة العباسية بالعراق. مات في سامراء. الأعلام ٨ / ٦٢ وفي الكامل في التاريخ ٧ / ١٠ وفي تاريخ اليعقوبي ٣ / ٢٠٤ وفي تاريخ بغداد ١٤ / ١٥ وفي مروج الذهب ٢ / ٢٧٨.