إرجاع رستان المذكور لوظيفته في تونس بعد تلك المحاكمة مما يشهد لما قلناه في مباحث السياسة ، من أن سياستهم الخارجية ليست هي كإنصافهم فيما بينهم في داخليتهم وهو مما يحقق أن الرجال المنتخبين للأحكام إنما يكونون من أعف الموجودين وأنصفهم لا تميل بهم الأهواء عن الاستقامة ، غير أن هذا هو الأغلب لا سيما في المدن العظيمة وفي المجالس الانتهائية.
وأما غيرهم فالإرتشاء بينهم فاحش يكاد أن يكون مثل ما يصفون هم به حكام المشرق وطريقة الوصول إليه عندهم أيسر بما لهم من إباحة خلطة النساء ، فالمعطي للرشا يجعل الوسائل للتوصل إلى إحدى النسوة ذات النفوذ لدى الحاكم ويرشيها فتبلغه قصده بنفوذها بسبب قرابة أو وداد أو غير ذلك لدى الحاكم ، وربما أوصلت إليه حصة من الرشا وعلى تقدير الإكتفاء بما أخذته هي فهو أيضا رشا للحاكم حيث مال بالحكم للجهة التي انتفعت منها من يريد نفعها ، وبهاته الوسيلة تكون خصلة الرشاء عندهم مستورة نوعا ما لأن ظهورها يوجب العقاب الشديد بالقوانين مع عدم وجود الشفاعة عندهم ، ومع ذلك يوجد في هؤلاء أيضا كثير متعففين وقد حضرت يوما في مجلس الحكم لرؤية هيئة الأحكام والحكام في باريس فإذا هو بيت كبير مستطيل له باب يدخل منه المتفرّجون وباب للمتوظفين وباب للخصوم ، وفي صدره مسطبة عالية عليها ثلاث كراسي وأمامها مائدة مستطيلة عليها لكل كرسي دواة وأقلام وورق ، وعن يمين تلك الكراسي كرسي طويل يجلس عليه أزيد من عشرين شخصا ، وعن شمالها باب وأمامها في نحو نصف البيت درابزين حائلة بين المتفرّجين والخصوم ، وللمتفرجين كراسي يجلسون عليها وبقرب الكراسي التي في الصدر كراسي سفلية أحدها : لرئيس الكتاب ، والثاني : لوكيل الحق العمومي الذي رتبته رتبة محتسب عام على الحقوق ، وله اعتبار كاعتبار رئيس المجلس. وبعد هنيهة من دخول المتفرجين خرج من الباب الذي على الشمال رئيس المجلس ومعه عضوان كل منهم لابس جبة طويلة بأكمام واسعة حمراء وعلى أكتافه منديل مقصب بالذهب وعلى رأسه شعر أبيض عارية له ذنب معقود على قذلهم ، فوقف لهم الحاضرون وأومأ الرئيس بالسلام لهم ثم جلس الرئيس على الكرسي الوسط والعضوان عن يمينه وشماله وجلس كل من وكيل الحقوق والكاتب على مرتبته ، ولكل منهم أيضا زي خاص يشبه زي الرئيس والأعضاء ، ثم دخل وكلاء الخصام الذين لهم ذلك الوقت دعوى ولكل منهم مثل ذلك الزي ، ثم دخل من باب خاص جمع من الناس باللباس المعتاد وجلسوا على ذلك الكرسي الطويل وهم الجوري ، فتكلم الرئيس بالسؤال عن حضور شاهد فأحضر واقفا فحلف أمامهم ثم أدى شهادته وبعد سكوته تسار الرئيس والأعضاء ثم خاطبه الرئيس لائما عن عدم حضوره في اليوم المعين له ومعلما له بما يجب عليه من العقاب عن ذلك ، فاعتذر بالوحدة فأعلمه بلزوم الحكم فيه فوقف وكيله وقال إن الشاهد مسكنه في المحل الفلاني وهو غريب وفقير عاجز عن إكراء من يستعين به ، فوجه الرئيس القول للشاهد مشدّدا بلزوم