الباب التاسع
في الحجاز
الفصل الأول : في سفري إليه
بعد أن أقمت في السويس بعض أيام منتظرا لسفر باخرة إلى جدة وجدت عدة بواخر أجنبية ومصرية فآثرت المصرية وكان رئيسها مسلما وسائر متوظفيها أيضا مسلمون ، ولا يركب أحدا إلا بعد أخذ إذن مرسوم على ورقة جوازه من محافظ البلدة ويؤدي على ذلك أداء نسيت قدره وأظنه نحو سبعة فرنكات ، وعند ركوبي في الباخرة وجدت الإزدحام من الركاب والمشيعين فوق الحد ، فالتزمت أن أضم إلى أتباعي ورحلي إلى استقرار الحال في السفر وجلسنا في حجرتي بالطبقة الأولى لأن بيتها صغيرة ليس بها إلا حجرتان إحداهما سكنها أحد المصريين بعياله والأخرى سكنتها أنا ، ورأيت من ازدحام الركاب وتراكمهم على بعضهم مع الوسخ وسوء الحالة وعدم احترامهم للطبقة الأولى وكثرة السكان على سطحها من النساء والرجال بحيث لا يجد الإنسان محلا فسيحا يرتاح به ما أسفت منه على الركوب هناك ، ولكني تسليت بما رأيت من انشراح جميع الركاب وعدم إكتراثهم بما هم فيه من المشقة والكدر ، كما تسليت برفقة الحال مني محل البنوّة أحمد ظافر النجيب النسيب ، وبحسن أخلاق رئيس الباخرة والركاب على السطح من الطبقة الأولى وهم من أعيان قرى المصريين وعربانها وبعضهم له إطلاع على مسائل الفقه ، وكان أيضا راكبا معنا ناظر بواخر البوسطة الخديوية في الحجاز وهو محمد موسى لطفي رتبته العسكرية بين باشي ، وهو كامل الأخلاق والمعارف وله مشاركة حسنة في العقائد والفقه والعربية مع محافظته على شعائر الدين من الصلاة وغيرها ، وله إطلاع كامل على أحوال فن البحر لأنه كان رئيسا للباخرة التي نحن بها المسماة بالزقازيق ، ورأيته يشير على رئيسها بعدة أمور وهو ينقاد إليه ، وله إطلاع أيضا على الجغرافية والعلوم الرياضية وبعض الألسن مع تفطن للأحوال السياسية ، فآنستني رفقته مع بقية الركاب وكثيرا ما يقضي الوقت في مداعبات مع بعض العربان الموسومين بالشح ، وكنت أجد الباخرة كأنها بلد إسلامي بإقامة الأذان في الأوقات كلها والصلاة جماعة في عدة جهات ، لكن الكثير لم يصل ولا يستطيع الصلاة سيما عند إضطراب البحر وإن كان لم يقع منه شيء شديد ، لكن حصل في الباخرة تعفن الرائحة سيما في اليوم الأخير لأن أكثر