الركاب لا يغسل يديه من الطعام مع كثرة إدامه فضلا عن غير ذلك ، حتى كانت بيت الطبقة الأولى عفنة لإزدحام خدمة سكانها وكثرة أكلهم المؤدم وعدم توقيهم الوسخ ، لكنهم يقضون أغلب الأوقات بالتلاوة الحسنة أو إنشاد الشعر ، وقد وجدوا عند تفقدهم الركاب وأوراق ركوبهم أن أحدهم ركب في الإزدحام بدون أداء الكراء وهو فقير وأحجمت أصحابه عن الأداء عليه ، فسجن في سجن الباخرة وبعد عدة ساعات انتدب أحد أصحاب الخير إلى أن دعا رفيقا لذلك المسجون خيرا وأذنه بالتطوف على جميع الركاب البالغين ستمائة شخص وإعلامهم بحالة رفيقه وطلب إعانتهم له في أجر الركوب فحصل له مقدار ذلك وزيادة ، وعند حضور المال أحضر المسجون وأطلقه نائب البوسطة محمد لطفي المشار إليه مجانا ودفعت له الدراهم والدنانير المجتمعة له ليستعين بها في حجه ، ورأيت من بعض الأغنياء الشح المطاع في هاته الواقعة ومن بعضهم الإقتصاد ومن بعضهم الكرم ، ولما بلغنا سمت رابغ أعلم الرئيس الحجاج بذلك ليحرموا ، فاغتسلوا وأحرموا بنزع ثيابهم والله أعلم بكيفية غسلهم وأدائهم فرض الإحرام ، لأن حالة الضيق والوسخ فوق ما أقدر أن أعبر عنه ولا يعلم مقدار ذلك التعب إلا من شاهده ، وأضف إلى ذلك أن الباخرة لا تعطي الأكل ولو لأصحاب الطبقة الأولى فلزم كلا أن يطبخ لنفسه ، وأغلب الركاب كان معهم زادهم مما يصبر من الطعام من لحم وغيره ، وكنت أخذت زادنا من السويس لحما ودجاجا وخبزا وغيره فكان طباخي يطبخ لي ولمن معي في مطبخ الباخرة وفي ذلك من المشقة لمن لم يعتد البحر ما لا يخفى ، فكان ذلك من عجيب أمر الباخرة مع أنها بريدية وذاك خلاف معهود صفتها ، ولما سألت نائب البوسطة عن سبب ذلك قال : إن الركاب إلى جهات البحر الأحمر لا يوجد منهم من يأكل من الباخرة فرأينا ترتيب ذلك عبثا ولهذا تجد بواخر البريد في البحر الأبيض على نحو غيرها وأما هنا فلا.
ثم عند غروب اليوم الثالث من ركوبنا قل سير الباخرة وأعلمني الرئيس بذلك لأنها إن دامت في سيرها نصل إلى جدة ليلا ولا يتيسر الدخول إليها إلا نهارا فكان تقليل السير أولى من الوقوف قربها ، وبعد شروق اليوم الرابع ، وصلنا إلى جدة فتلقانا دليل المرسى وهو أعرابي لابس قميصا أزرق وعلى رأسه عمامة حمراء راكب قاربا ، فصعد إلى الباخرة وصار يأمر بالسير يمينا وشمالا لكثرة شعاب الحجر المغطاة بالماء حتى دخلنا حوض المرسى ، فإذا هو حوض وسيع أمين طبيعي بما حوله من الأحجار الخلقية وفيه عدة بواخر أجنبية وباخرة حربية صغيرة للدولة العثمانية وعدة سفن شراعية صغيرة ، وبعد الإرساء وأخذ الإذن في النزول من مأموري الصحة ونزول أغلب الركاب ، نزلت مع رفقائي ودفعت على كل واحد منا نحو أربعة فرنكات لأخذ ورقة على أن المدفوع لنظافة أماكن الحج ، فكان نمرة ورقتي ٧٦ ألف ونيف من المئات والآحاد ونسيت الآن تحرير كل الأعداد ، ولقيت أحد مطوفي التونسيين وهو جميل الأخلاق على خلاف غيره فأدينا رحلنا للقمرق وتعسف