مطلب في تاريخ مصر الجديد
لما استولى الفرنسيس على مصر وكان قاصدا التوصل من هناك إلى إفتكاك الهند من الإنكليز لما كان بينهم من الحروب والعداوة بل وكانت سائر أوربا إذ ذاك ضدا للفرنساويين حسبما تقدم ذلك في محله ، فحينئذ عاضدت إنكلاتيره الدولة العثمانية على حرب فرنسا وأخرجاها من مصر سنة ١٢١٦ ه وبعد استقرار أمرها للدولة استولى إمارتها محمد علي باشا الذي أصله من الأرناؤط وقدم عسكريا مع عساكر الترك لأخذ مصر من الفرنسيس ، وكان كامل الأوصاف للرياسة فتقدم إليها بنفسه على بني جنسه وإنقاد له الجميع وقررت ولايته الدولة على دفع خراج معلوم سنويا وذلك سنة ١٢١٩ ه فوجد مصر في نهاية درجة الفقر والبربرية والجهل بل حتى أن الأمراض الوبائية من الطاعون قد تمكنت فيها وصارت عادية تفني من الناس سنويا خلقا كثيرا حتى قل العمران ولم يبق من مآثر تقدم المصريين سوى الإسم في التواريخ ، نعم وجد للعلوم الشرعية بقية آثار في الجامع الأزهر من العلماء ، وذلك كله لما مر عليها من تقلبات الدهر والظلم والجور والإستبداد والحروب في الأيام الخالية ، فشمر عن ساعد الجد ووافقه البخت وفتح لمصر عصرا جديدا ، فنظم فيها جيشا نظاميا من أهلها ورتب الأداء على الأهالي على قانون غير مجحف ، وألزمهم بتعمير الأرض وفتح الترع وأنشأ المدارس العلمية للعلوم الرياضية والحربية ، وأحضر المعلمين من أوروبا ، وأحيا المارستانات وألزم الأهالي بالنظافة وتوسيع الطرقات والبناآت وأرسل التلامذة إلى أوروبا لتعلم الفنون وأحيا نمو العلوم الشرعية ، وسهل أبواب التجارة وأنشأ معامل السلاح والسفن وترجمت الكتب النافعة في فنون شتى من لغات شتى إلى العربية ، فنشأ في مصر جيل جديد وعصر جديد بسطت فيه طرق العمران والتمدن والقوّة في مدة يسيرة ، فافتتح النوبة وسنار واستولى على الشام والحجاز وافتكه من الوهابي ، بل امتد بالإستيلاء إلى قرب الآستانة في الأناطولي وخشيت شوكته من عصيانه على الدولة العثمانية ، فتعصب الإنكليز إلى الدولة في الظاهر لتوطيد أركانها وفي الباطن خشية من انتشاء دولة إسلامية شابة ذات قوة مثل تلك ومركزها مصر فتخشى أن تمتد من هناك إلى الهند الذي هو روح قوّة الإنكليز سيما إذا عاضدته إحدى الدول الأوروباوية مثل فرنسا ، فلذلك حاربته مع الدولة العثمانية التي هي إذ ذاك على ضعف شديد من حرب الروسيا والثورات الداخلية واستقلال اليونان وغير ذلك فقهروا محمد علي ولكن لإتمام مقصد إنكلاتيره لم تسمح للدولة بالإستيلاء التام على مصر ، لمراعاة المقاصد المشار إليها أيضا ، فكان الأوفق لها إبقاء مصر على شبه استقلال ليضعف كل من الجهتين ، وبقي محمد علي واليا على مصر على أن تكون الولاية في ذريته من أكبر إلى أكبر ويؤدي خراجا سنويا للدولة ويعينها عند وقوع حرب معها بالعساكر الذين يبلغ عددهم الأربعين ألفا ، وكذلك يعينها بالسفن ، وأن الرتب العالية في مصر يعين هو أصحابها وتوليهم الدولة والسكة والخطبة تكون بإسم السلطان العثماني والعلم عثماني أيضا ، وخرج الحجاز عنه إلى الدولة وكذلك الشام ، وبقي