وقع الاصطلاح فيها على ألفاظ تؤدي معاني سياسية منضبطة محررة مختصرة تحتاج في غيرها إلى تطويل وإبهام ، وذلك الإتفاق على إجرائها في الخطابات السياسية لم يزل جاريا إلى الآن حتى أن ألمانيا لما غلبت فرنسا سنة ١٢٨٦ ه ١٨٧٠ م حاولت نقل هاتيك المزية إلى لسانها فلم توافقها إنكلاتيره ، وقالت إما : أن نبقى على الإصطلاح المتعارف على اللغة الفرنساوية وإما أن كل دولة تخاطب بلسانها ، فأبقى الوجه الأول لأن الثاني فيه من الصعوبة ما لا يخفى إذ يلزم رجال السياسة تعلم لسان جميع الدول ذات السياسة ووجود مترجمين في وزاراتهم لتلك اللغات بخلاف الإستقرار على اللغة الفرنساوية التي مر ما وقع فيها من التحرير ، ومن اعتنائهم بلغتهم اعتناؤهم بالفصاحة فيها وإرتجال الخطب المستطيلة أعني الخطب على النحو العربي الأصلي بارتجال الكلام مع فصاحته وانسجامه لا كما يصنع الخطباء الآن من حفظهم لما ينشئونه إن كانت لهم قدرة على الإنشاء أو حفظ منشأت غيرهم أو سردها من ورقة ، إذ هذا خلاف الأسلوب العربي الأصلي وإنما هو أي الأصلي استحضار معان مرتبة في فكرة الخطيب وإلقاؤها عند الحاجة بألفاظ منسجمة فصيحة بليغة ، وذاك هو شأن كل أمة ترقت في سجايا الفخار فالفرنساويون توجهوا لهذا المقصد أيضا وبلغوا فيه على حسب اصطلاح لغتهم إلى المبالغ الحسنة ، فترى خطباءهم يقف أحدهم خطيبا يتكلم ساعتين وثلاثا بدون تلعثم أو مراجعة سوى البطاقة أحيانا مكتوب بها رؤوس النوازل التي يريد الخوض فيها وينتقل من واحدة إلى أخرى بربط المناسبات إلى انتهاء مقصوده ، وقد يعترض له بعض أضداده أفرادا ومجتمعين بالاستهزاء منه والسخرية من كلامه والرد عليه ولو بالضجيج وهو متثبت في مسلكه ، ويجيب الراد عليه بالمناسبة لأن أغلب ما تكون خطبهم في السياسة مع تنازع الأحزاب فيها سيما في مجلس النواب والأعيان ، وكثيرا ما يوضع للخطيب فوق المائدة أمام منبره كأس بالماء والسكر والزهر لعله يجف لسانه من كثرة الكلام أو الغيظ هذا أصله. لكني رأيت من يتخذ الشرب منه آلة للتفكر ومهلة للتدبير فيما يقول حتى أكثر من ذلك ، وصار يشرب كل ثلاث دقائق أو خمس وهو دليل عليه ، والحاصل أن خطبهم الآن شبه خطب أسلافنا العرب في الصورة وتشبه الدروس المتقنة في أدائها من علمائنا الفحول الآن مثلما أدركت من دروس شيخنا العلامة محمد النيفر (١) الأكبر قدس الله روحه ، إذ يستطيع الكاتب أن ينقلها من تقريره لفظيا وتصير تأليفا جيدا.
وخطباء القوم الآن يحضر مواطنهم كتاب عارفون باصطلاح مختصر في الكتابة حتى يحيطوا بجميع ما يقول الخطيب ، وأكثر الأسباب في طول خطبهم هو إدماج مسائل من فنون شتى فيها سيما علم التاريخ فبأدنى مناسبة يذكر تاريخ أدنى شيء مبحوث عنه وما وقع فيه من قديم الزمان وحديثه ، فلذلك كان فن التاريخ ضروريا لأهل السياسة وهو المعقول
__________________
(١) هو محمد بن أحمد بن قاسم النيفر ، أبو عبد الله (١٢٢٢ ـ ١٢٧٧ ه). قاض من أهل تونس. توفي في المدينة. الأعلام ٦ / ١٩.