عزائم الأمتين في العمل والمال ولا يبعد حصول المقصود في وقت قليل ، ثم أقلعت بنا الباخرة ولم تحمل إلا الركاب والبريد وما خف من البضائع ورحل الركاب وأنعم الله علينا بأن كان البحر في نهاية السكون ولله الحمد فكنا في غاية الراحة ، غير أنا لا ننظر إلا ما قرب من البحر للباخرة لكثرة الغيم في الشطين وبعد سير ساعة وأربعين دقيقة وصلنا إلى مرسى دوفر من إنكلاتيره التي هي أقرب مرسى في مقابلة مرسى كالي ، ووصلت الباخرة أيضا للرصيف ونزلنا إلى الرتل الذي هو على أهبة السفر بلصق الباخرة فسألني خدمة الرتل : إلى أين توجهي؟ فقلت : إلى لندره ، فقالوا : أي جهة منها؟ فتعجبت هل هؤلاء لهم عجلات يوصلونني بها إلى محل نزلي مع أني لم أتخذ منزلا وإنما كنت كتبت لأحد معارفي فيها ليتلقاني في المحطة ، فأعدت لهم إني ذاهب إلى لندره إلى محطة سكة الحديد ، فقالوا : أي محطة؟ فتذكرت ما كتب لي المتلقي إليّ في المحطة من أنه ينتظرني في محطة فكتوريا ، وعلمت إذ ذاك فائدة تنصيصه على إسم المحطة ، وحينئذ ذكرت لهم إسم المحطة فعينوا لي الحافلة التي نركبها وكان ذلك بعد تعب في التفاهم من الجهل باللغات حتى كان الذي فرج الحال رجل يعرف الفرنساوي ، ثم قفل الرتل سرعان سابحا بسرعة أزيد مما هي في فرنسا حتى لا يتمكن النظر من رؤية الأشياء القريبة وكان الرتل يطفر طفرا من تقارب مقاطع قضبان الحديد الجاري عليها من سرعة السير إذ هو يسير ستين ميلا أو أزيد إلى الثمانين في الساعة الواحدة ، وكنت أرى على بساط الأرض آجاما عن بعد من شجرة الدينار التي يضم ورقها إلى ماء الشعير المتخذ سكركة المعروفة بالبيرة ، ونرى أكواما كالقرى المنثورة من الآجر المصنوع حتى تعجبت من كثرته وكثرة معامله ولكنني عند ما شاهدت بلدانهم زال التعجب ، لأن الآجر وحده هو مادة البنا ، ثم لما قربنا من لندره وإذا ببساط الأرض على نحو مد البصر كأنه شبكة صياد بقضبان طرق الحديد المتفرعة إلى جميع الجهات والرتل واردة صادرة كالنمل الساحب ، فوصلنا إلى المحطة وتلقاني المنتظر إليّ ونفس عني مللي بكلامه العربي. وهو مستر أميوني أحد أبناء الشام انتقل إلى هناك وسكن بلندره محترفا بصناعة التعليم للسان العربي وكان دخله من التعليم كافيا له بعسر لغو الاسعار ، وكانت مدة السفر من باريس إلى لندره تسع ساعات وثلاث أرباع الساعة بين السير في البر والبحر ، وسكنت في الحارة المعروفة بهيت بادك وأقمت بلندره يومين منفصلين وثلاث ليال ، واليوم الوسط ذهبت فيه إلى بلد أبريتن صباحا ورجعت منها مساء حيث أنها على شاطىء البحر وينتدبها أعيانهم صيفا وهي من أعظم منتزهاتهم ، وأبنيتها مثل أبنية لندره وأحسنها في هاته البلد ثلاثة أماكن.
أولها : قصر الملك وبستانه فالبستان جميل إجمالا وأما القصر فقد بناه ملكهم ويلم الثالث المتولي سنة ١٦٨٩ الذي كان معجبا بالصيد والخلاعة محبا للإنفراد ، فبنى قصر بريتن وكان مغرما بأحوال الصينيين فجعل بها ذلك القصر بعيدا عن القاعدة ليهنى عيشه بالإنفراد ، ثم أنشأ القصر على نحو قصور ملوك الصين وجلب إليه من هناك سائر الأدوات