مع أن القسم الكبير من الأسطول لم يدخل معه إلى المضائق وانفرد هو بمن تحت إمرته من الأسطول ، وعند ما رآه الأميرال الكبير قد فقد الربع من سفنه أشار إليه بالرجوع وكان هو أعور فلما أخبر بالإشارة جعل النظارة على عينه العوراء ، وقال : إني لم أر شيئا مما تقولون ، وزاد في الهجوم إلى أن غلب عدوه وأجرى شروطا مثلما أراد ، ومع هذا الإنتصار حكم عليه المجلس الحربي بالعقاب لمخالفته الأمر ، وقد مات ذلك الأميرال في حرب سنة ١٨٠٥ ضد فرنسا وإسبانيا وكانت سفنهما أربعين وسفنه سبعا وعشرين ، فاقتربت من سفينته سفينة فرنساوية وراقبوا شخصه إلى أن أصابوه برصاصة خر منها للنزع ، وكان ينتظر البشارة بالإنتصار ويدعو نائبه قبل الموت فما دخل عليه إلا بعد قريب من ساعة مبشرا بالنصر فقال : كم غنمنا من السفن؟ قال : أظن أربع عشرة أو خمس عشرة لأني لم أتمالك عن القدوم إليك عند ثبوت النصر قبل عدها ، فقال : لكني كنت أشترط على نفسي أن تكون عشرين ثم قضى نحبه ، وقد دام الملك جورج الثالث في الملك ستين سنة لكن كان في أغلبها لا يتصرف في شيء بل لا يدرك شيئا من مصالح الملك لإختلال في عقله ، ولذلك جعل له إبنه ولي عهده نائبا عنه في حدود سنة ١٨٠٤ ثم توفي ذلك الملك سنة ١٨٢٠ ، ومع ما حصل في مدته من خروج الممالك والحروب فإن إنكلاتيره تقدمت فيها خطوة وسيعة في التمدن والإعتبار والقوة حتى وصلت إلى الذروة القصوى ، فإنها أحدثت في ظرف أربعين سنة مائة وخمسا وستين ترعة وتكاثرت فيها معامل القطن والصوف الفائقة حتى راجت سلعتها على سائر ما في غيرها لرخصها وإتقانها ، واكتشفت واستملكت أوستراليا وغيرها. وتقدمت فيها المعارف والتآليف إلى نحو ما هي عليه الآن ، واستفادت حكما سياسية علمتها كيف تدير مستعمراتها الواسعة في سائر أقطار العالم ، وحصلت على فخر النصر على نابليون وغيره واستتبت الإدارة القانونية بغير نزاع ولا دسائس ولذلك صار يضرب المثل عندهم بأن حرية الإنكليز إنما هنئوا بها في مدة ملكهم المجنون. وخلفه إبنه جورج الرابع (١) وفي أيامه وقع الغدر في أسطول الدولة العثمانية من أسطول إنكلاتيره المترئس على أساطيل الدول في تظاهرهم على طلب تسليم الدولة العثمانية لليونان بالإستقلال ، فمن غير إعلان بالحرب لها تخللت الأساطيل ما بين أسطولها المركب من سفنها وسفن مصر وطرابلس وتونس والجزائر وهم على اطمئنان السلم والأمن ، وأطلقت عليهم النيران دفعة واحدة بحيث لم يبق منهم باقية غدر أو شناعة لا تنمحي ومعرة لا تزال على خصوص الإنكليز لأنهم هم الذين بيدهم أمرة جميع الأساطيل الدولية ، وعند ما سمعت الندوة الإنكليزية بفظاعة الواقعة هاجوا وماجوا وطلبوا محاكمة رئيس الأساطيل وحكم عليه مجلس حربي بالقتل مع دفاع وزير البحر عنه بكل ما أمكن من الإعتذار وتلفيق دعوى بأن إحدى السفن العثمانية أطلقت النار عليهم ولم يجد كل ذلك شيئا ، وعند ما تحقق
__________________
(١) هو جورج الرابع (١٧٦٢ ـ ١٨٣٠). المصدر السابق (٢٢١).